لماذا لم ترد فى كتب الأحاديث النبوية سوى خطبة الوداع فقط بينما خَطَبَ الرسول فى المسلمين مئات المرات وهو يؤمهم فى صلاة الجمعة؟، أين ذهبت هذه الخطب؟، ولماذا لم يدونها كتبة الأحاديث؟ هذه أسئلة بديهية لم يتصد أحد للإجابة عنها، وربما لم يحاول. وبالطبع تظل معلقة ولا يجوز تخمين أى إجابات، فالتقول على الرسول خطيئة كبرى .. لكن هذه التساؤلات هى مجرد بوابة إلى مغارة الإسرائيليات، والإسرائيليات هى كل ما دسه بنو إسرائيل فى السيرة والأحاديث. والغريب أن جزءا كبيرا منها مازال مؤثرا فى عقول وأفئدة كثير من المسلمين، بسبب التقديس الذى فرضه رجال الدين على كتب تراث محملة بهذه الإسرائيليات، مع أن كاتبيها بشر، والبشر مجتهدون خطاؤون..ولا عصمة لما يكتبونه أو يبدونه من آراء وشروح وتفسيرات.ولهذا لم تفت على الأستاذ محمد فهمي، وهو عالم أزهرى تتلمذ على يد الإمام محمد عبده أن يفرد صفحات فى سفره القيم المنهاج القويم لمعرفة الحديث الصحيح من السقيم، يرصد فيها الإسرائيليات، بدايتها وتوسعها. وقيل فى تفسير الظاهرة إن الرسول رخص لأصحابه فى الحديث عن بنى إسرائيل، حيث قال لهم:«حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج». بينما سورة آل عمران تنهيهم عن ذلك تماما فى الآية 75: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ». لكن ظل البعض من الصحابة والتابعين يختلفون إلى أهل الكتاب أمثال وهب بن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام وأضرابهم من أحبار اليهود، يسألونهم عما عندهم من العلم عن بدء الخليقة وقصص الأنبياء وسير الصالحين من أسلافهم. ووصف عالم الاجتماع العربى العبقرى ابن خلدون العرب بأنهم لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وغلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوَّفوا إلى معرفة شيء، مما تشتاق إليه النفوس البشرية فى أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدون منهم، وهم أهل التوراة من اليهود. لكن حين استفاض الكذب منهم كيدا للمسلمين، نهى رسول الله أصحابه عن تصديقهم والركون إليهم، ولكن الاختلاف إليهم لم يتوقف، من أمثال ابن عباس وأبى هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم. وقد كذبت السيدة عائشة رضوان الله عليها روايات لابن عباس، ويقول الأستاذ محمد فهمى عن هذه الروايات: وما أكثر ما حمل ابن عباس عن كعب الأحبار من الإسرائيليات وجعلها تفسيرا لكثير من آيات الذكر الحكيم، ونسج الوضاعون على منوالها أضعافا مضاعفة، وحشا بها المفسرون الأقدمون كتبهم، حتى جاء محمد بن جرير الطبرى فاستوعبها كلها فى تفسيره، وتناقلها عنه كل من تصدى لتفسير كتاب الله من بعده بلا بصيرة إلا من عصم الله. وبالرغم من أن الأستاذ محمد فهمى حَمَلَ على ابن عباس لدرجة أنه قال بالنص: لو أن ابن عباس اتقى الله وكف عن حديثه لكفينا شر كثير من هذه الأراجيف، إلا أنه لم يزد ولم يخصص له سوى بضع صفحات، وفى المقابل أفرد مساحة واسعة إلى حد ما للحديث عن أبى هريرة، وهو أمر منطقى لما شغله أبو هريرة من مكانة وجدل فى الحديث النبوي، ولا يعرف راوية بين المسلمين نسب للرسول أحاديث مثله. وبدأ الأستاذ فهمى كلامه بحديث مروى عنه ورد فى البخاري: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم. لكن أبا هريرة وهو الذى روى لنا نهى النبى عن تصديق أهل الكتاب، قد أسرف على نفسه فسألهم وألحف فى السؤال، خاصة كعب الأحبار الذى وصف سائله اللحوح: ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبى هريرة. وأبو هريرة لم يكن يعرف العبرية ولا العربية لأميته..أى عرف ما فى التوراة من أحبار بنى إسرائيل. ولم يسرف أبو هريرة فقط فى الأخذ من بنى إسرائيل، وإنما أسرف أيضا فى رواية الحديث، ويورد الشيخ فهمى بالتفصيل أحاديث رواها واختلف عليها رواة آخرون، وبعضها كذبته السيدة عائشة وأم سلمة، ومنها أحاديث لم يجد أبو هريرة بدا من التنصل ممن كان يرويه ويفتى به، فانتهى صاحب المنهاج القويم لمعرفة الحديث الصحيح من السقيم إلى خلاصة قال فيها: لم يسلك أبو هريرة قصد السبيل فى رواية الحديث، كما سلك غيره من أهل السابقة فى الإسلام، ولكن مع تأخر إسلامه أخذ يحدث عن النبى بما سمع منه وما سمعه من غيره من قبل أن يتثبت منه، فإذا روجع فى شيء منه عدل، وكثيرا ما كان يصل حديث النبى بحديث من عنده، فيحسب السامع أن الحديث كله عن رسول الله. وبالرغم من تحفظات الأستاذ فهمى على إكثار أبى هريرة من رواية الحديث، فإنه يحفظ له قدره دون أن يصفه كما وصفه المتنطعون بأنه رواية الإسلام، بسبب حفظه من الحديث ما لم يحفظ سواه، فهذا إسحق بن راهوية الذى قال عن نفسه: أحفظ سبعين ألف حديث. وفى الوقت نفسه لا يغلو الشيخ محمد فهمى فى الابتعاد عن أبى هريرة، ولا يذهب فيه كما ذهب أهل الأهواء قديما وحديثا، إذ يردون عليه كل ما يرويه، ويل ويدفع عنه مثالب لحقت به، حاول خصومه أن ينالوا بها منه، ويقول: إن المرء وليد عصره وبيئته، وما ينبغى لأحد أن يُخْرِج أبا هريرة عن طبائع الناس فى عصره إلا لدليل قاطع لن يجدوه. ويقول: لكننا ننكر كل الإنكار ما يروى عنه أو عن غيره من أصحاب رسول الله، مما يكون مجافيا لصريح القرآن أو السنة المتفق عليها والتى جرى عليها العمل، أو أن يكون منافيا لحكم العقل وسنن الحياة، ونقيم البرهان على براءة رسول الله مما يتقول الناس عليه خطأ أو خطيئة. للحديث بقية. لمزيد من مقالات نبيل عمر