كنت مثلك.. ومثل الملايين قبلنا يفسر الآية الكريمة (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحي)..على أنها إحدى معجزات القرآن الكريم التى يحار فيها العلم، أن أنشأ لنا حياة من مصدر لا حياة فيه، وحين كنت أسمع جدى الشيخ محمد عبد الدايم يرحمه الله وهو يبكى على المنبر، حين أخرجوا جنينا من بطن أمه بعد وفاتها، وشبه حالة الطفل بالنبتة الخضراء فى أعلى جبل أجدب وأن من أوصل الماء إلى هذه النبتة لكى تورق وتثمر لقادر على أن يحفظ أسباب الحياة لجنين فى رحم أمه الميتة، فإنه سبحانه وحده يخرج الحى من الميت! إلى أن التقطت كتابا بجنيه واحد للدكتور زكى نجيب محمود صدر عن مكتبة الأسرة عام 1995بعنوان «رؤية إسلامية» يشرح فيه معنى الآية الكريمة بأن معناها الصحيح أنه يخرج الحى من الحي، وليس من الميتِ، ويعتب فيه عالمنا الجليل على علماء سهراتنا الرمضانية الأكابر، أن يكرروا فى برامجهم أن فى الكتاب الكريم من قوانين العلوم ما يتطابق مع آخر صيحة فى تلك العلوم الطبيعية، فمن الذى يجرؤ بعد ذلك على الاعتراف بالخطأ إذا ما ثبت تخلف هذه العلوم، فالقرآن الكريم نزل مع الوحى كتابا فيه عقيدة وشريعة، فإذا وردت فيه إشارات علمية إلى حقائق مما نراه اليوم مندرجا تحت علم فإنما قصد بها أى شيء مما يتفق مع سياق ورودها إلا أن تكون «علما» من العلوم الطبيعية. ويتساءل عالمنا الجليل زكى نجيب محمود، ماذا يفعلون إذا جاءت صيحة جديدة وثالثة ورابعة، لماذا لا يكفينا فقط أن القرآن الكريم يحيل الإنسان إلى عقله وإلى إعماله فيما يوسع علمه بحقائق الكون؟! أعود إلى الآية الكريمة (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحي..) الآية 19 من سورة «الروم» التى فسرها (البعض) بإخراج الإنسان الحى من الماء الميت عند التزاوج حين يخرج الماء الميت من الإنسان الحي، كما فسرها عتاولة آخرون بأنها مثل إخراج المسلم من الكافر، أو إخراج الدجاجة الحية من البيضة الصلبة ثم تكبر الدجاجة تضع بيضة ميتة مرة أخري.. لكن الدكتور زكى نجيب محمود فسرها بشكل آخر فقال: إن كلمة الميّت بتشديد الياء ليس معناها أن الإنسان قد مات، لكن معناها أى إنسان مصيره إلى الموت، وهى تختلف عن كلمة (ميْت) بتسكين الياء التى وردت فى قوله تعالي:( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميْتا فكرهتموه) وفى قوله: (وحرمت عليكم الميتة..) فكلمة ميتا بتسكين الياء معناها ميت بالفعل، أما فى الآية (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحي..) أن حيا يخرج من حى مصيره الى الموت، كما خرج هذا الحى الذى هو صائر الى الموت من حى قبله، أى أن الله سبحانه أخرج حيا.. من حى .. من حي، فى تسلسل يمتد وتظل الحياة فى نسله إلى ما يشاء الله، وأن الأحياء المتلاحقة من النوع البشري. كان منها ما جاءته رسالة فاهتدى ومنها من لم تبلغه أو بلغته فلم يهتد! والقرآن ملئ بالقصص التى تبين كيف تطورت أقوام من أقوام فى مجرى التاريخ، والمقابلة بين حى وميت بتشديد الياء فيه حركة صاعدة، كما وكيفا، فى آن واحد فالأحياء تتكاثر عددا ثم تتسامى ارتقاء من جهالة وضلال الى معرفة وهدي. والمسيرة البشرية صائرة بالضرورة فى مجموعها الى ماهو أعلى وأكمل، وانظر الى الزارع يفلح الأرض الجدباء فيخصبها، والى الصانع يشكل المعدن والحجر فيقيم العمارة أشكالا وألوانا وينسج الثياب ويرصف الطرق، وانظر الى الانسان على مر العصور اكتشف النار فاستضاء بعد ظلمة، وصنع العجلة والطائرة والصاروخ فتطورت حياته من الجمود الى الخفة والسرعة، والحضارة الإنسانية التى نعرفها بدأت هنا فى مصر فلما أكملت مصر دورها انتشرت عبر البحار وقامت حضارة اليونان والرومان ثم جاءت الحضارة الاسلامية العربية وقد اغتذت مما سبقها وقويت فكانت من دعائم حضارة الشمال الغربى الآن، بفضل التطور الذى قال به داروين، ثم جاء التقدم الذى أثبت فشل نظرية داروين المرهونة بعوامل البيئة الخارجية، فتغير المفهوم كله اليوم بفضل التقدم، فحركة الإنسان فى حكم ديننا العظيم لا تحكمها البيضة ولا ماء التلاقح لكن يحكمها معيار الحرية البالغة من الاهمية اقصى حدودها، ليست الحرية السياسية، لكن التى يحققها العلم بقطاراته وطائراته ومناظيره التى مدت حضور الإنسان الى عوالم جديدة فأسمعه الرادار دبيب النمل، وأرته العدسات المجرات والكواكب. الحرية بكل أبعادها هى حياة.. من حياة.. من حياة.. وهذا هو معنى الآية الكريمة (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحي)..أهديه إلى علماء سهراتنا الرمضانية، وإلى روح عالمنا الجليل زكى نجيب محمود فالإنسان الحى يموت ليحيا حياتين؛ حياة فى الدنيا بحياة خلفه وعلمه، وحياة فى الآخرة يحددها يوم الحساب! لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف