فى منتصف الليل وفى وضح النهار، يصل المئات من الرجال والنساء من مهاجرى دول أمريكا الوسطى للحدود الأمريكية، بعد رحلة شاقة تجرعوا خلالها الأهوال، إلا أنها أهون من بقائهم فى وطن فقدوا فيه كل سبل العيش والأمان على أيدى عصابات المخدرات التى تلاحقهم وتسعى لإجبارهم على الانضمام لصفوفها، أو انتظار مصير مجهول فى حال الرفض، وذلك إلى جانب معاناتهم من الفقر المدقع نتيجة للوضع الاقتصادى المتردى فى بلادهم، والذى تفاقم أخيرا مع أزمة انهيار محاصيل القهوة والذرة. ولسنوات طويلة حاول كل من الحزبين الجمهورى والديمقراطى إصلاح قوانين الهجرة فى البلاد، ولكنهما فشلا مع ادراكهما الكامل بأن الحكومة ستصل يومًا ما إلى نقطة الانهيار. وها هى بالفعل وصلت لتلك اللحظة، حيث أصبحت غير قادرة على توفير الإغاثة الإنسانية الضرورية للمهاجرين أو حتى تطبيق الضوابط الأساسية على عدد وطبيعة من يدخل الولاياتالمتحدة. ففى السابق كان شباب المهاجرين، ينتظرون عند سدود نهر تيخوانا للحصول على فرصة للهروب عبر المياه والسعى للافلات من قبضة حرس الحدود، ولكن هذه الطريقة ولت، فحاليا يسير آلاف الأشخاص للحدود ثم يستسلمون بعدما أخبرهم المهربون أنه سيتم إطلاق سراحهم بسرعة، طالما يصطحبون معهم أطفالا، وسيُسمح لهم بالبقاء فى الولاياتالمتحدة لسنوات أثناء متابعة قضايا اللجوء الخاصة بهم. مما جعل الأسر تتوافد بأعداد كبيرة، فلدى محاكم الهجرة الآن أكثر من 800 الف قضية معلقة؛ كل واحدة تستغرق فى المتوسط 700 يوم للبت فيها. ولأن القوانين والأحكام القضائية، التى تهدف لحماية الأطفال تحظر سجن أسرهم لأكثر من 20 يومًا، فغالبًا ما يتم إطلاق سراح العائلات، ثم تحملهم حافلات تقلهم حتى محطات فى وسط المدينة فى أماكن مثل براونزفيل، تكساس، معظمهم دون نقود أو أية متعلقات، ثم يتجهون إلى وجهات مختلفة عبر الولاياتالمتحدة. وأخيرا وصل تدفق العائلات المهاجرة إلى مستويات قياسية، فقد شهد شهر فبراير الماضى زيادة فى أعدادهم وصلت ل 560% مقارنة بشهر فبراير 2018، وبالمعدل الحالى تستقبل الولاياتالمتحدة نحو 100 الف مهاجر كل شهر، ويقول المسئولون إن أكثر من مليون شخص سيحاولون عبور الحدود خلال ال 12 شهرًا المقبلة، وسيكون لديهم حجة قانونية قوية للبقاء، وذلك بموجب معاهدات اللاجئين الدولية وقوانين اللجوء الفيدرالية، ولكن معظمهم لن يكون لهم صفة لجوء رسمية حتى عام 2021. ويعد اصطحاب اللاجئين للأطفال، أكبر المشكلات التى تثير غضب ترامب حيث يلقى هو ومساعدوه اللوم على قوانين الهجرة فى البلاد ويسميها بسخرية «القوانين الديمقراطية» التى تجعل المهاجرين يجلبون أطفالا معهم لزيادة فرصهم فى الوصول للولايات المتحدة. فهناك قانون تم توقيعه عام 2008 من قبل الرئيس جورج دبليو بوش، لحماية ضحايا الاتجار بالبشر، والذى يطالب سلطات الهجرة بمعاملة أطفال المهاجرين بطريقة مختلفة عن معاملة البالغين. وقانون آخر صدر فى عام 1997 فى قضية تعرف باسم فلوريس، يمنع الحكومة من احتجاز الأطفال أو الأسر لمدة تزيد على 20 يومًا. وحينما حاول ترامب العام الماضى تغيير تلك القوانين بفصل الأطفال المهاجرين قسراً عن آبائهم واحتجاز الوالدين إلى أجل غير مسمى وإرسال الأطفال إلى الملاجئ ودور رعاية الأطفال، أجبرته ردود الفعل السياسية والدولية العنيفة على التخلى عن هذا النهج. ويقول الخبراء إن الرئيس ليس مخطئًا عندما يقول إن «الثغرات القانونية» فى نظام الهجرة الأمريكى مسئولة جزئيًا عن تشجيع المهاجرين على جلب أطفال فى رحلات خطيرة تنتهى فى بعض الحالات بمأساة. ففى ديسمبر الماضى، توفى طفلان مهاجران على الحدود بعد إصابتهما بمرض خطير، لذا يحذر المسئولون من احتمال وقوع المزيد من الوفيات. وقد قام كريستوفر كابريرا، نائب رئيس الاتحاد المحلى لوكلاء حرس الحدود فى جنوب تكساس، بالتقاط عشرات الصور لأكثر من 100 طفل مصابين بأمراض خطيرة ويتلقون المساعدات الطبية، ليثبت من خلال هذه الصور أن الأمراض المعدية منتشرة بينهم بشكل كبير، ومن بينها: «الجرب والجديرى المائى والسل وغيرها«، بل والأدهى أن الإصابة وصلت للعاملين فى مركز علاج المهاجرين». وبدلا من أن يضخ ترامب المزيد من الموارد على الحدود لتخفيف التكدس وتحسين الوضع المأساوى للمهاجرين، يسعى لمنعهم من الوصول إلى البلاد من خلال إتباع سلسلة من الاستراتيجيات الرادعة، منها: محاكمة كل من يعبر بشكل غير قانونى، وفصلهم عن أطفالهم، وتشديد معايير اللجوء، وإبطاء وتيرة العمل فى إجراءات السماح باللجوء للأشخاص المتقدمين للحصول عليها، ووضع عراقيل لرفض أكبر عدد ممكن، مما يضطر طالبو اللجوء إلى البقاء فى المكسيك، فى أثناء انتظارهم لمواعيد المحكمة. وحينما أعلن ترامب اعتزامه بناء جدار على الحدود مع المكسيك لوقف الهجرة غير المشروعة، أدت المواجهة حول تمويله إلى إغلاق حكومى لمدة 35 يومًا فى شهرى ديسمبر ويناير، مما زاد الأمر سوءًا. ويقابل النهج القاسى الذى يتبعه ترامب بالرفض من الرأى العام الأمريكى، لتعارضه مع المواد المنصوص عليها فى الدستور والمعنية بحماية المهاجرين، فهناك سلسلة من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، بدءاً من اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين، والتى تنص على موافقة الدول على السماح لأى شخص يلتمس اللجوء، حتى لو كان مجيئه للبلاد تم بطريقة غير مشروعة، وحددت الاتفاقات اللاجئ كشخص يخشى الاضطهاد على أساس » العرق أو الدين أو الجنسية أو العضوية فى مجموعة اجتماعية معينة أو الرأى السياسي«. ويعد تحديد ما إذا كان مقدم الطلب يستحق حق اللجوء متروكًا لسياسة كل دولة على حدة، ولكن فى الولاياتالمتحدة، تم دمج الالتزامات الدولية ومعايير اللجوء إلى حد كبير فى قانون الهجرة الأمريكى بدءًا من قانون اللاجئين لعام 1980. لذا يلجأ بعضهم لإثبات انتمائهم لأقلية دينية مما يعرضهم للمضايقة أو التهديد، كما تلجأ النساء إلى الشكوى من التعرض للعنف الأسرى واستهداف بعض العصابات لهن. ومن بين ما يقرب من 100 الف ممن طلبوا اللجوء خوفا من الاضطهاد والعنف خلال العام الماضى، فقد ثبتت مصداقية نحو 74 الفا و677 لاجئا أى 75 % من طالبى اللجوء حصلوا عليه بالفعل، مما يؤكد أنهم فى الغالب ليسوا سوى ضحايا، هربوا من بلدانهم بحثا عن الأمان.