مهما نقول ونعيد ونزيد بأن بناء البيوت والمدن فقط لا يبنى إنسانا وأن بناء الإنسان هو الذى يعطى للحضارة رونقها وصقلها وقيمتها. ولا يتحقق هذا البناء إلا عن طريق الثقافة والفن. لا أحد ينكر الصلة القوية بين الثقافة والإبداع. فإن الثقافة هى التى تشكل طراز التفكير وتوسع من عمق المبدع وتصقل موهبته وتزيده قوة وقدرة على الخلود وتعلو بالذوق العام خاصة عندما يكون الأمر مختصا بالفنون المرئية التى فى إمكان الكثيرين خاصة محدودى الثقافة أن يتذوقوها. وحيث إننا مازلنا نعد الأدب والموسيقى والتصوير والدراما والمعمار كلها ذات صلة وثيقة بأسس الثقافة الديمقراطية ولذلك فلا يجب أن يجتزئ أهل السياسة فى نظرتهم إلى منتجات هذه الفنون على أنها مجرد حلى للثقافة وزينة لا بل هى أمور يجب أن يشارك الناس جميعا فى الاستمتاع بها والإفادة منها إذا ما أريد بالديمقراطية أن تكون حقيقة قائمة. وهى تبرهن على أنه مهما كانت آراؤنا فى الدوافع والقوى التى تحفز الفنان المبدع إلى مزاولة عمله فإن آيات الفن وروائعه إذا ما خرجت إلى حيز الوجود كانت من أقوى وسائل الاتصال فى استثارة انفعالات الجماهير العريضة وتكوين الآراء التى تتصارع مع بعضها وتدفع المجتمع إلى الأمام. فإن المسرح والسينما ودور الموسيقى ومعارض الفنون التشكيلية والاستعراضات الشعبية والألعاب الرياضية الذائعة بين أفراد الشعب وعوامل الترفيه والتسلية والاستجمام دخلت كلها ضمن التنظيمات واللوائح بوصفها أجزاء من عوامل الدعاية التى يمكن استغلالها لأى شكل من أشكال المجتمع. فقد أخذنا ندرك على سبيل المثال خاصة فى المعلومات والعمل فى تشكيل الرأى العام، وتكوين عواطف الناس وميولهم وقال البعض فى الدول الناشئة بأنهم لو استطاعوا أن يشرفوا اشرافا صحيحا ناجحا على سبيل المثال على الأغانى التى تنتشر فى أممهم، وقاموا بتوجيهها التوجيه الصحيح لما كانوا فى حاجة إلى أحد يضع لهم القوانين. وتبين لنا الدراسات التاريخية أن ما كان للديانات البدائية من قوة وسلطان فى تحديد المعتقدات وتعيين ضروب السلوك إنما يرجع إلى قدرتها على استثارة الانفعالات والشعور وتنشيط الخيال بشتى أنواع الطقوس والاحتفالات الدينية والأساطير والقصص الشعبى وهى كانت بمنزلة الثقافة فى هذه البيئات البدائية، وعلى مستوى آخر فى أعياد الدراما الإغريقية (تراجيديا وكوميديا) دليل على ما نقول. فهى لا تخلو من صفات يتميز بها العمل الفني. وكما يقول البعض إن الكنيسة التى كان لها أكبر الأثر فى العالم الحديث قد لجأت هى الأخرى إلى عوامل استثارة حاسة الجمال فى النفس وأدمجتها فعلا فى تكوينها الخاص بعد أن عدلتها وكيفتها بشكل يجعلها ملائمة لما يهدف إليه من أغراض فنجحت بذلك فى اكتساب ولاء الجماهير واستبقته فى صفها. لكى يوطد أى نظام أركانه ويستقر فإن عليه أن يسيطر على أخيلة الناس سيطرة كاملة وذلك بتفعيل كل الحوافز والدوافع النفسية التى اعتدنا أن نسميها باطنية. فالمنظمات الدينية للأسف هى تلك التى تحكم الناس وتسيطر عليهم باستخدامها هذه الوسائل، ومن ثم كانت لهذا السبب أخطر منافس. الحياة بلا فن تصبح وجودا فظا غليظا. فالمرء لا يستطيع أن يعيش خلوا من أى قيم الفن الروحية ومن الناس الذين ينتقدون الحس بهذه القيم. فكيف أصبحوا يعيشون على هذه الشاكلة.. كيف يتحملون أن يعيشوا حياة جافة عقيمة يدب فى داخلها الخواء ولكن هم والحمد لله فئة قليلة. فإن الغالبية العظمى ليست عديمة الحساسية ولكنها تعيش بلا مبالاة فالعمارة والنحت والتصوير والشعر والدراما بأنواعها ليست موضع الاهتمام المباشر فى حياتهم. يقول الناقد الفنى هربرت ريد فى كتابه «إلى الجحيم بالثقافة» بأن الثقافة نمو طبيعي، وأنه إذا توافرت الحريات للمجتمع وكذلك كل الضروريات التى تلزم الحياة الديمقراطية فإن الثقافة سوف توجد دون اللهاث وراءها، فسوف تأتى بشكل طبيعى كالثمار على شجرة أجيدت زراعتها. ولكن وجود شجرة جيدة الزراعة لا يتأتى إلا بجودة التربة وحماية الموقع وهى الضرورات التى تساوى المدد السياسى والاقتصادى لمجتمع طبيعي. وهو يرى بأنه لا يكفى أن نقول بأن الفنان هو الصانع الماهر وان المجتمع سوف يقدمه دائما لأن مهارته مفيدة. فالواقع أن الفنان فى أكثر الحالات وفى معظمها خاصة عندما يكون فنانا عظيما فإنه يقدم إلى المجتمع شيئا قد يرفضه مجتمعه أو لا يستطيع من أول وهلة أن يستسيغه. وهو يرفض أن يكون الفن تعبيرا عن الذات، فإذا اقتصر كل فنان على معرفة التعبير عن ذاته الوجدانية فإن الفنان حينئذ منفصل عن مجتمعه ومعاد له، وكثير من زمن العصور السابقة كان من هذا النوع. وقد أفضى هذا النوع فى النهاية إلى مشكلة «اللهو الفارغ». فإن الفن الاجتماعى فى نظره لا يمكن أن يكون لاهيا، كما أن الفن اللاهى لا يمكن أن يكون اجتماعيا. وأن الفن العظيم فى رأيه هو الذى يعبر عن شيء اشمل من ذات الفنان، مثل شكسبير ومايكل أنجلو وبيتهوفن والتعبير الذاتى ليس إلا وهما، وهو تصرف الفرد الذى يضع نفسه ضد الجماعة ويتوهم أنه أفضل من الجميع فيقرر أن يستعبدهم ليخدموا أغراضه الخاصة. والديمقراطية على حق حين ترفض أن يوجد هذا النوع من الأفراد لأنها تنادى بالمساواة. ويطالب هربرت ريد المجتمع بأن يتوقع من فنانيه أكثر من مجرد التعبير عن الذات. يجب أن يعبر الفنان العظيم عن الحياة على أن تكون الحياة التى يجب عليه التعبير عنها فى فنه العظيم الذى يطلق عليه ريد «الوعى العصرى للجماعة». ويطالب هربرت ريد بثورة ديمقراطية تقوم على بناء مدن ليست كبيرة ولكنها واسعة حيث يتم المرور فيها بانسيابية، وحدائق مزهرة يلعب فيها الأطفال، ويعيش الناس ينعمون بالسعادة فى منازلهم المضيئة المريحة. واقامة المصانع والمحال بالقرب من مخازن تموينها وتمتد الكهرباء إلى كل مكان. والموازنة بين الصناعة والزراعة وبين المدينة والريف. وقد يقول البعض ساخرا بأن هذه هى ثقافة القدور والأواني، ولكن يجب علينا ألا نحتقر القدور والأواني، فنحن ندين لأعظم مدنيات الماضى عن طريق قدورها وأوانيها. يقول ريد: «الفنان الحقيقى لا يمكن أن يحبطه المجتمع ولكن السياسيين هم الذين من الممكن أن يخدعوا ويدفعوا المجتمع إلى مجاهل التيه. فقد ينطوى الفنان على نفسه ويقوم بالتعبير عن مأساته» وقد حدث هذا فى مصر بعد هزيمة يونيو 7691. لمزيد من مقالات مصطفى محرم