بينما تبدو الأحداث متناثرة ولا صلة بينها، وفى أفضل الأحوال قد يرى البعض صلة جزئية وعابرة، بينما فى الواقع كل منها يؤثر فى الآخر، وكل منها يشكل بُعدا رئيسيا فى عملية تاريخية لإعادة تشكيل النظام الدولي. فقد شهد الأسبوع الماضى ثلاثة أحداث مهمة، تشترك فى كونها مؤشرات عالم جديد يتم بناؤه، ولكن مع اختلاف الأدوات والأهداف. الأحداث المقصودة هنا هى على التوالي؛ القمة بين الرئيس الروسى بوتين ونظيره الكورى الشمالى كيم جونج أون والتى جرت فى شرق روسيا، ثم قمة طرق الحرير الجديدة، التى شهدتها العاصمة الصينيةبكين، وشارك فيها 35 رئيسا ورئيسا للوزراء من مختلف قارات العالم. والحدث الثالث هو قرار الرئيس ترامب الانسحاب من المعاهدة الدولية لتجارة الأسلحة التقليدية الموقعة فى الأممالمتحدة العام 2012، وإعلان الكونجرس بعدم التصديق عليها. الأحداث الثلاثة تهم العالم بأسره، إذ تقدم آليات مختلفة للتعامل مع ثلاث قضايا تهم النظام الدولى ككل، وتسهم فى تشكيل مساراته الكبرى فى الأعوام المقبلة، ومن شأنها أن تطرح إشكاليات ومهام ما زال على النظام الدولى أن يتعامل مع نتائجها. القضية الأولى ترتبط بقمة طرق الحرير الجديدة، ذات الصلة الوثيقة بمبادرة الحزام والطريق الصينية التى تستهدف تشبيك العديد من الاقتصادات لدول العالم فى القارات الخمس، وتهدف إلى تحديث البنية الأساسية بتمويل صينى للعديد من الدول بلغ 85 مليار يورو فضلا عن قروض بلغت 365 مليار يورو لنحو 30 دولة، وهى تمويلات خصت مجالات الطرق البرية والبحرية والموانئ. والفكرة المركزية للمبادرة تتعلق بحرية التجارة الدولية ورفع القيود والابتعاد عن السياسات الحمائية، وربط ذلك بالاستثمار فى البنية الأساسية للعديد من الدول، لكى تتحول إلى دول منتجة وتسهم لاحقا فى النشاط التجارى الدولي. وهنا نجد نوعين من التقييم لهذه المبادرة، الأولى تقييم ايجابى يرى فيها فرصة كبرى لتثبيت آليات التعاون الجماعى من أجل بناء عالم أكثر رخاء وأمنا واعتمادا متبادلا، وتكون فيه الآليات الاقتصادية والتنموية هى الأساس، مع تبادل الخبرات وتطبيق سياسات الفوز المشترك للجميع. أما التقييم الثانى فيأتى أساسا من كبريات الدول الغربية ذات الاقتصادات القوية، والتى تتعامل مع مبادرة الحزام والطريق بحذر وقلق، وترى فيها استراتيجية تستهدف تعزيز مكانة الاقتصاد الصينى دوليا على حساب الاقتصادات النامية، ومن ثم التربع على قمة الاقتصاد الدولى وإزاحة الاقتصادات الغربية والحد من هيمنتها. وفى كلا التقييمين قدر من الحقيقة وقدر من التحدى الذى سوف تكشف عنها مسيرة المبادرة ذاتها، ومدى قدرتها على تعزيز التعاملات المتكافئة بين الأطراف التى تتشارك فيها. أما القضية الثانية التى تعكسها قمة الرئيسين بوتين وكيم فتتعلق بالسلام العالمى والحد من الأسلحة النووية، وتحديدا نزع الأسلحة النووية لكوريا الشمالية، وترتبط بها نوعية الضمانات الأمنية الكافية للنظام الحاكم فى كوريا الشمالية لكى يقدم على النزع الكامل لتلك الأسلحة والتخلص من أنظمة الصواريخ بعيدة المدي. وتعقيد القضية فى الأصل يعود إلى الموقف الأمريكى الساعى الى إجبار كوريا الشمالية على نزع الأسلحة النووية والصاروخية دون تقديم أى التزامات مقابلة سواء كانت رفعا تدريجيا للعقوبات الأمريكية والدولية على بيونج يانج، أو تقديم ضمانات أمنية بعدم التعرض للنظام الحاكم بعد أن يتخلى عن تلك الأسلحة التى يعتبرها أساس حماية النظام وبقائه. وهنا نلاحظ أن اللقاء الروسى الكورى الشمالى يمثل إضافة لموقف بيونج يانج، ورسالة للولايات المتحدة بأن هناك قوى كبرى تشاطر بيونج يانج رؤيتها، وبالتالى فإن على الولاياتالمتحدة أن تعيد النظر فى استراتيجيتها العقابية وأن تراعى المطالب الكورية الشمالية، وأن تفك العزلة عنها للوفاء بما عليها. أما القضية الثالثة فمنبعها إدارة ترامب التى قررت الانسحاب من معاهدة بيع الاسلحة التقليدية، لأنها حسب تفسير الرئيس ترامب تحد من قدرة المواطنين الأمريكيين الملتزمين بالقوانين على امتلاك الأسلحة، وتتصادم مع التعديل الثانى للدستور الأمريكى القاضى بحق امتلاك الاسلحة، كما تمنع الشركات الأمريكية من بيع الاسلحة التقليدية بأنواعها من بنادق ودبابات وطائرات ومدرعات لمن يريد. وهو تفسير له علاقة برؤية ترامب الخاصة بأمريكا أولا، وعدم الاعتداد بأى قيود أو قواعد متفق عليها فى الإطار العالمي. وهو تفسير لا علاقة له بمضمون المعاهدة ذاتها، والذى يفرض على الدول المُصنعة تقييم مبيعات الأسلحة لدول أخرى قبل إقرارها، وهل تستخدم فى أعمال حربية تؤدى الى إبادة جماعية، أو عمليات ينطبق عليها وصف جرائم حرب، أو قد توجه إلى إرهابيين أو عصابات جريمة منظمة، أو منظمات لها صلة بانتهاكات حقوق الإنسان. وواضح أن قيود المعاهدة مرتبطة أساسا بأعمال مُجرمة وليست قانونية، ولا علاقة لها أصلا بوضع قيود على امتلاك الأسلحة للأفراد الأمريكيين الذين يلتزمون بالقانون. والأثر المباشر لموقف إدارة ترامب يصب فى إلغاء الرقابة الحكومية المُسبقة ومنح شركات الأسلحة الأمريكية مساحة حرية غير مسبوقة فى تصدير الأسلحة عبر العالم، لمن يريد ولديه الموارد المالية، أيا كانت طبيعته أو الأعمال التى يقوم بها فعلا وسوف يستخدم فيها هذه الأسلحة، ودون أى تقدير لدرجة الخطورة التى تمثلها تلك الأسلحة وحجم الدمار الذى تسببه والضحايا المحتمل موتهم. ولا شك أن هذا الموقف من شأنه أن يؤدى إلى إغراق العالم بأسره بأنواع أسلحة تقليدية فائقة التدمير، مما يزيد من الحروب والانتهاكات غير المسبوقة سواء بين الدول أو داخل الدول ذاتها، فى حين ما يهم إدارة ترامب هو حصول الشركات الأمريكية على الأموال. الموقف الأمريكى على هذا النحو يؤدى الى نتيجتين متناقضتين مع تلك التى تستهدفهما تحركات وسياسات كل من الصينوروسيا، فالأولى تعنى بالتعاون الاقتصادى ومساعدة الدول النامية كأساس لعالم متماسك. والثانية تعنى بتثبيت السلام والأمن فى شبه الجزيرة الكورية واليابان، أما الولاياتالمتحدة فكل ما تسعى إليه هو جمع الأموال ولو على حساب دماء الأبرياء بالأسلحة الأمريكية التقليدية. وفى المحصلة فإن النظام العالمى يواجه مسارات متناقضة من شأنها أن تجعل حلم الأمن العالمى بعيد المنال. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب