قليلون للغاية هؤلاء الذين لا تحتاج الكتابة عنهم إلى مناسبة محددة، ولا يتطلب الاحتفاء بهم ذكرى ميلاد ولا يٌشترط أن يأتى استدعاء قيمتهم متوافقا مع ذكرى الرحيل! رجاء النقاش واحد من هؤلاء، المثقف الموسوعى الذى جعل الثقافة تهبط من برجها العاجى لتمشى فى الأسواق وتصافح وجوه المتعبين فى الشارع آخر النهار وقد تنتحى جانبا لتحتسى فنجانا من القهوة تحت تكعيبة عنب بقرية بعيدة منسية. كان الرجل مكتشفا لنجوم أضاءت حياتنا، فهو أول من احتفى بأيقونة الشعر العربى محمود درويش ووضع أمير الأدب السودانى الطيب صالح تحت بؤرة ضوء لم تغادره حتى مماته ومنح مصطفى محمود قلادة المجد بعد مجموعته القصصية الأولى «أكل عيش» ووهب أحمد عبدالمعطى حجازى شهادة ميلاده كشاعر استثنائى. ترأس رجاء تحرير العديد من المطبوعات عبر نصف قرن من الزمان، ووضع حجر الأساس لنهضة الصحافة الثقافية فى أكثر من بلد عربى، ليصبح صانعا للظواهر الثقافية الكبرى و ميزانا من ذهب لقياس حيوية أمة وشاهد عيان على ابداعات أجيال. ورغم كل ذلك رفض أن يكون «شيخا» يطارده «المريدون» أو»معلما» يتقافز حوله « التلاميذ» رغم أنه بالفعل ما أكثر تلاميذه وما أروع مريديه. لم يكن رجاء النقاش ابن الكتب رغم موسوعية قراءاته، ولا ابن النظريات الجافة رغم سعة اطلاعه، ولكنه كان ابن الحياة بقسوتها و التحقق ببهجته و الأحلام الكبرى ببريقها الوردى المراوغ، لذا جاءت كتاباته النقدية بحد ذاتها قطعة من الفن الممتع والسرد الذى يفيض عذوبة وتشويقا. أذكر أنه فى صيف 1998 وبينما كنت أخطو خطواتى الأولى على درب مهنة المتاعب، تم تكليفى من إدارة «الأهرام العربى» بإجراء حوار مع الأستاذ رجاء بمناسبة صدور كتابه الشيق عن مذكرات « نجيب محفوظ « والتى تضمنت آراء صادمة فى كثير من الموضوعات. احتاج الأمر كثيرا من الاتصالات و الوساطة فالأستاذ لا يجرى أحاديث منزلية حيث طلب أن « ندردش « قليلا وسألنى عن اهتماماتى وخلفيتى مهنيا و ثقافيا. فهمت أن الأستاذ المعروف بالقلق والوسوسة يريد أن يطمأن على قدرة من يحاوره على نقل أفكاره بدقة. وحين عرف بأنى تربيت على كتابات أنطون تشيكوف و يوسف إدريس منذ سنوات الصبا، تهلل وجهه وصاح: إذن فلنذهب لمكتبى فى «الهلال» ونجرى الحوار هناك. وبينما مصر تتحلق حول التليفزيون لمشاهدة مباراة نهائى مونديال كرة القدم بين البرازيل وفرنسا، كنت أحاور الأستاذ عن محفوظ وناصر وأمراض الوسط الثقافي!.