فى الوقت الذى كانت تدور فيه أعمال القمة العربية فى تونس، كان المغرب يشهد انعقاد قمة أخرى بين رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرانسيس الثانى والعاهل المغربى محمد السادس. وعلى الرغم من أن الدعوة التى وجهها ملك المغرب لبابا الفاتيكان كانت سابقة فى توقيتها على الجريمة البشعة التى شهدها مسجدا مدينة كريست تشيرش فى نيوزيلندا، إلا أنه لو كان لمحمد السادس أن يحدد موعدا مناسبا لزيارة البابا لما وجد خيرا من مطلع أبريل 2019 حيث الحاجة أمّس إلى التأكيد على معانى التشارك فى الإنسانية والتسامح بين الأديان فى مواجهة انتشار دعاوى الكراهية والتعصب مع صعود التيارات اليمينية المحافظة. يضاف إلى ذلك أن نداء القدس الصادر عن هذه الزيارة والمؤكد على رمزية مدينة القدس كأرض لتعايش الديانات التوحيدية الثلاث إنما يمثل ردا على المحاولات الإسرائيلية المستميتة لتهويد المدينة، صحيح أن الإعلان لم يشر إلى القرارات الدولية ذات الصِّلة والتى عصف بها الرئيس الأمريكى بنقله سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، وصحيح أن هذه الإشارة كانت ستكتسب أهمية خاصة لكون عاهل المغرب هو رئيس لجنة القدس، لكن على أى حال فإن موقف الفاتيكان من قضية القدس معروف للكافة، وقد سبق للبابا فرانسيس الثانى أن دعا لاحترام الوضع القائم للمدينة تماشيا مع قرارات الأممالمتحدة ذات الصِّلة، وهذا يفى بالغرض. ملاحظة ثانية تتعلق بموضع الزيارة من سياسة المملكة المغربية كسياسة قائمة على احترام التعددية بمختلف أبعادها، التعددية السياسية بكون المغرب هو ولبنان الدولتين العربيتين الوحيدتين اللتين لم تعرفا ظاهرة الأحادية الحزبية على مدار تاريخهما. والتعددية العرقية واللغوية بالوضع المتميز للأمازيغ المغاربة وصولا إلى اعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية مثلها مثل اللغة العربية فى الدستور المُعّدل عام 2011. والتعددية الدينية بالتعايش بين الديانات الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية، فمع أن أعداد اليهود والمسيحيين آخذة فى التناقص لأسباب عديدة، ومع أن أكثر المسيحيين المقيمين فى المغرب ينتمون لافريقيا جنوب الصحراء ممن جاءوا طلبا للدراسة أو للهجرة لاحقا إلى أوروبا، إلا أن الملكية المغربية حريصة على الحفاظ على التنوع الدينى ولها مبادرات عديدة فى هذا الخصوص. ملاحظة ثالثة ترتبط بما ورد فى كلمة البابا حين رأس قداسا حاشدا فى الملعب الرياضى بالعاصمة الرباط حيث قال: الكنيسة تنمو بالاستمالة لا بالتبشير, ثم عاد ليكرر رجاء لا تبشير. هذا التحذير البابوى لأتباع كنيسته من ممارسة التبشير ينم عن درجة عالية من النضج الفكري، فلا يوجد دين لا يتبنى دعوة الآخرين للإيمان بما يؤمن به، لأن كل دين ببساطة يعتقد أنه على حق، لكن هذه الدعوة وخصوصا فى ظل عمليات الشحن المتبادل بين الديانات والمذاهب المختلفة تنطوى على خطورة بالغة بالنسبة للسلام الاجتماعى والاستقرار السياسي، ونماذج الاقتتال المذهبى والعنف الدينى حول العالم أكثر من أن تُحصَي. ملاحظة رابعة تدور حول اللقاء الذى جمع البابا فرانسيس الثانى بالمهاجرين المسيحيين، وهو لقاء فيه بالتأكيد شق دينى فى ظل وحدة الآصرة الدينية القائمة بين الكنيسة الكاثوليكية ورعاياها الذين يمثلون أغلبية بين المسيحيين، لكن فيه أيضا شق سياسى بلفت الانتباه إلى قضية المهاجرين والحاجة إلى تهيئة الظروف المناسبة لإقامتهم، ومن هنا جاءت إشادة البابا بدور الجمعيات الكاثوليكية فى رعاية المهاجرين ورفضه كل أشكال الترحيل الجماعي. آتى بعد ذلك للملاحظة الخامسة والأخيرة وهى تتصل بالانتقادات التى وُجهّت من دوائر إسلامية وازنة للاحتفالية التى جرت فى معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات, بحضور كل من بابا الفاتيكان وملك المغرب. انتقدت بشدة تلك الدوائر الجمع بين الأذان والترانيم الكنسية فى عرض غنائى مشترك، وأضافت أن: مبدأ التسامح والتعايش والحوار مبدأ ثابت فى الإسلام ولكنه لا يعنى التنازل عن الثوابت. وفى الحقيقة فإن هذا العرض كان عرضا بالغ الرقي، وتداخلت فيه الأصوات الرخيمة للمغنين الثلاثة (رجل وامرأتين) كما لو كانت ضفيرة واحدة، ومن هذه المعزوفة الجماعية نستخرج عدة رسائل سامية منها أن أصل الديانات واحد وأن الإنسانية رجل وامرأة وأن الفن قادر على مواجهة التطرف. لم يكن الأذان كاملا ولا أتصور أن المستمع قد اختلط عليه الأمر بحيث تصور أن ما تغنى به الرجل فيه دعوة للصلاة، بل إن الرجل بعد أن تغنى بالشهادة راح يتغنى بحب النبى صلى الله عليه وسلّم، فما شأن هذا إذن بالدعوة للصلاة؟. لقد توقفتُ مليا أمام الانتقاد المذكور وقارنته بموجة الترحيب الإسلامى التى قوبلت بها إذاعة الأذان فى التليفزيون النيوزيلندي، وتساءلت:ُ لماذا يرفض بعض المسلمين معاملة الآخرين بما يريدون أن يُعَامَلوا به منهم؟. توقفتُ أيضا أمام تعارض هذا الانتقاد مع ما يستهدفه معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات من تصحيح المفاهيم المغلوطة عند الدعاة الذين يقصدونه من دول عربية وإفريقية بل ومن فرنسا نفسها، وتساءلتُ: كيف يمكن لهؤلاء أن يُقاوموا الإسلاموفوبيا فى بلاد المهجر إذا ماترّفعوا عن التلاقى مع الأديان الأخرى حتى على مستوى التوزيع الموسيقي؟! إننا نحتاج إلى أن نترجم الوثائق الكثيرة حول التعايش بين الأديان إلى واقع معيش، وأن نواجه التأكيد على الاختلاف بالتمسك بالجذور المشتركة للإنسانية، وأن نستلهم المعانى النبيلة لزيارات البابا إلى بلداننا العربية. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد