أنا مدير عام بشركة كبري, ولى ابنة أخت عمرها الآن خمسة وثلاثون سنة, وهى جميلة الشكل والخلق, وتعمل فى أحد مراكز البحوث, ومن أسرة طيبة جدا، وكانت ومازالت مثل الصفحة البيضاء التى لم يكتب فيها سطر واحد! وقد لفتت نظر مهندس شاب من المترددين على المركز فاقترب منها, وأبدى رغبته فى التعرف على أسرتها وطلب يدها, فنقلت رغبته إلى والدها, ولم يبد الرجل اعتراضا ودعاه إلى منزله فى جلسة امتدت إلى نحو ساعتين, عرفنا خلالها أنه من أسرة محترمة, فأبوه وكيل وزارة بالمعاش, ووالدته ربة منزل, وله اختان متزوجتان من شابين يحتلان مركزين كبيرين فى مواقع مهمة, وأخ غير متزوج يعمل بجهة كبري, وهكذا بدا لنا أنه عريس مناسب لها, فوافقنا جميعا عليه.. وسألنا ابنة أختى عن رأيها فأومأت بالموافقة بكل براءة وطيبة، وسارت الأمور على ما يرام, ولم نتوقف كثيرا عند المتطلبات المادية وخلافها مثل الشقة البعيدة جدا عن منزل أسرتها ومكان عملها, حيث إن الذهاب إليها مشقة تتطلب ساعتين من السفر فى أفضل ظروف المرور, كما أنه يكبرها بإثنى عشر عاما, لكنها قالت إن السن الكبيرة تعنى النضج والعقل والرزانة, بل إنها ترى فى هذا الرجل امتدادا لأبيها.. والحقيقة أن هذه الكلمات المؤثرة قد زادتنا قناعة بأنها أحسنت الاختيار، وتلهف العريس على عقد القران دون فترة خطبة فصادف ذلك هوى فى نفس والدها لكيلا يخرج بصحبتها فى أى مكان إلا وهى على ذمته, وكان لهما ما أرادا، وأصبحت ابنة أختى فى عصمة زوجها, وسابقا الزمن فى تأثيث شقة الزوجية وتشطيبها, وغطت فرحتها بالعريس بعض الأشياء الصغيرة الموجودة فى كثير من العرسان, والمتعلقة بالأمور المادية, وبعد جهد كبير انتقلت إلى عش الزوجية، ولم يمض وقت طويل حتى اكتشفنا أن زوجها الذى جاءها حاملا الوعود بالسعادة بلا عمل, وأن الشركة التى كان يعمل بها فى وظيفة مؤقتة قد استغنت عنه, لكن علامات الحزن التى بدت على وجهها كانت توحى بأن فى الأمر شيئا آخر, ومنعها حياؤها من أن تبوح لنا به, ولاحظنا أنهما يترددان على الأطباء بصورة مستمرة, بل وفى مواعيد دورية ثابتة, ولما فاض بها الكيل فجرت لنا الحقيقة المؤلمة, وهى أنه عاجز ولن يستطيع الإنجاب وأنه يعانى أمراضا مزمنة هى السبب فى تدهور حالته الصحية، والغريب أنه كان يعلم بحقيقته, ولا أدرى كيف طاوع نفسه وخدع هذه الفتاة المسالمة, فالطبيعى أن زوجته سوف تكتشف كل شيء ولا يدرى ماذا سيكون موقفها؟ فليست هناك إنسانة تعرف ربها وتخشى على نفسها من الفتنة من الممكن أن تستمر فى هذا الزواج، لقد وجدت فى أوراقه الخاصة تقارير طبية تثبت عجزه وأنه لن يتمكن من الإنجاب, فواجهته بها فإذا به ينهار ويعترف أنه تزوجها وهو يعلم ما به من عيوب, لكنه كان يأمل فى أن يجد الطب علاجا لحالته!.. وتغير تماما فى معاملته لها, فلم يعد يصرف على البيت وتركها تواجه الصدمة المروعة التى وجدت نفسها فيها بلا ذنب ولا جريرة. وظلت تبكى تحت قدميه لكى يطلقها وأنه يكفيه ما فعله بها, لكنه رفض بإصرار فلم نجد أمامنا مخرجا لها غير طلب الخلع, وتنازلت له عن كل شيء فطلقها بدم بارد, وقبض ثمن خلاصها من هذه الزيجة التى قامت على الغش والخداع, ولم تجن منها سوى خيبة الأمل والحسرة وفقدان المعانى الحلوة وهى فى ريعان شبابها وقمة عطائها. نعم إننى أراها تذبل أمامى كل يوم, والدموع تملأ عينيها على ما أصابها على يد هذا المخادع الذى مات ضميره ولم يراع الله فيها, ولم يفكر إلا فى صورته أمام الناس, وأتلفت حولى فأجدنى بلا حيلة, ولا أستطيع أن أقدم لها شيئا، وكم أتمنى إنصاف هذه الشابة البريئة القانعة والراضية دائما بقدرها ونصيبها فى الدنيا, فلقد كان بإمكانها أن تقيم علاقات صداقة مع الشباب وأن تقتنص منهم عريسا جاهزا بكلمات معسولة كما تفعل الكثيرات, لكنها أبت أن تكون واحدة من هؤلاء ومضت فى طريقها الذى رسمته لنفسها منذ البداية. ولعل كل الآباء والأمهات يتنبهون لهذه الخديعة الكبرى التى يلجأ إليها بعض الشباب للتغطية على عجزهم والإيقاع بفريستهم!.. أما عن الفحص الطبى لراغبى الزواج فهو وهم كبير فبإمكان أى واحد أن يشترى ورقة تثبت صلاحيته للزواج بعد أن يدفع ثمنها فى ظل غياب الضمير لدى بعض الأطباء، ولا أجد ما أختم به رسالتى سوى الجملة التى أسمع ابنة أختى ترددها دائما بصوت مسموع حسبنا الله ونعم الوكيل.
ولكاتب هذه الرسالة أقول لو أن العيب الذى كشفته ابنة أختك فى زوجها أصيب به بعد الزواج لطالبتها بالصبر الى أن يمن الله عليه بالشفاء, ففى هذه الحالة لا ذنب له فيما ألم به, ولكنه تقدم لخطبتها والارتباط بها مخفيا عنها حقيقة مرضه الذى تستحيل معه العشرة الزوجية, وفى ذلك أنانية كبيرة من جانبه, وظلم لفتاة ترجو لنفسها حياة آمنة ومستقرة. لقد كان يجب عليه ألا ينساق وراء أهوائه على حساب فتاة أقبلت على الزواج وهى تمنى نفسها بحياة هادئة, وأن يسلم بالأمر الواقع ويبحث عن العلاج قبل التفكير فى الارتباط, ولذلك فإن طلبها الطلاق كان هو التصرف الطبيعى فى مثل هذه الظروف وآراها محقة فى قرارها الذى ستترتب عليه كل حياتها المستقبلية, فاللحظة التى اتخذت فيها قرار الخلع هى نفسها اللحظة التى حددت فيها مصيرها معه أملا فى أن تعيد ترتيب أوراقها بعد الخديعة الكبرى التى تعرضت لها, ولذلك أرى أنكم مطالبون بزرع الأمل فيها, والكف عن صب اللعنات على من ارتبطت به, فلقد طوت صفحته, ولم يعد له وجود فى حياتها, ولن يجدى اللوم ولا الندم بعد أن صار ما حدث فى الماضي. وإذا كان الإنسان المتزن هو الذى يؤمن بالقدر ويكون مستعدا مع ما ليس منه بد, فإن ابنة أختك بما تتمتع به من رضا وطمأنينة قادرة على أن ترى السعادة فى الإيمان, وهذا هو الكمال الذى يتمنى كل عاقل أن يبلغه, والحقيقة أن هذه النعمة لا تدانيها نعمة, فالإنسان مع الله لا يشعر بالخوف ولا بالحزن وإنما ينعم براحة البال والسكينة لقوله تعالى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والأمان لا يتحقق بالمال أو النفوذ أو الجاه والسلطان, وإنما يتحقق بالاعتصام بالله والالتزام بتعاليمه وصدق الله العظيم إذ يقول الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله, ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وهكذا يظل الإيمان والتدين والاعتصام بالله والتوكل عليه العناصر الأساسية التى يقوم عليها منهج الحياة الحق الذى هو مفتاح السعادة وسرها. أما عن إحساس ابنة أختك بالقهر والظلم, فإنه ليس فى استطاعتها أن تغير إحساسها لمجرد الرغبة فى ذلك وإنما بإمكانها أن تغير أفعالها فإذا تغيرت الأفعال تبدلت الأحاسيس تبعا لها, بمعنى أن تنسى قصة زواجها الفاشل, وأن تأمل فى غد أفضل تجد فيه ضالتها مع شاب آخر يقدرها, ويدرك أنها وقعت ضحية إنسان أنانى لا يفكر إلا فى نفسه. ولعل قصتها تكون درسا لكل الأباء والأمهات بأن يتأنوا فى تزويج بناتهم, وأن يعطوا أنفسهم وقتا كافيا للسؤال عمن يتقدمون للارتباط بهن, فإذا كان زواج الصالونات أمرا واردا فى بعض الأحيان فليكن ذلك بعد دراسة وتمحيص لأوضاع العريس والسؤال عنه فى العمل ومحيط الأهل والجيران, ومتابعة ظروفه الصحية والأسرية, وأن تكون هناك فترة خطبة مناسبة يتعارف فيها الطرفان وتتاح من خلالها الفرصة لتقريب المسافات بينهما، وأما عن الفحص الطبى لراغبى الزواج, فيجب أن توضع له ضوابط مشددة تكفل إظهار حقيقة الأوضاع الصحية للطرفين دون غش أو خداع, ونشر الثقافة الزوجية, وقبل كل ذلك الصدق والصراحة والوضوح حتى يتحقق الزواج الناجح, وتعيش الأسرة فى سعادة واطمئنان وتسود روح المودة بين الجميع.