فى دعوته لزيارة القاهرة فى 25 فبراير 1967 واجه سارتر إشكالية هى على النحو الآتي: كانت اسرائيل فى حالة شك من نياته فى شأن تدعيمه لها. أما النخبة العربية فقد اكتشفت أن مشروعها القومى متجسد فى الفلسفة الوجودية بزعامة سارتر إلى الحد الذى قيل إنه المفكر الغربى الوحيد الذى تتبناه جميع الصحف العربية بل هو الذى تعلموا منه كيف يكونون مناضلين ثوريين. ولكن أستاذى عبد الرحمن بدوى كان له رأى مغاير فى ذلك المشروع القومى وهو أن يأتى معبراً عما سماه الوجودية العربية وهى عبارة عن توليفة بين فيلسوف وجودى ألمانى اسمه مارتن هيدجر كان قد عينه هتلر مديرا لإحدى الجامعات الألمانية إثر استيلائه على السلطة فى 30 يناير عام 1933 وبين التصوف الاسلامى حتى يمكن أن يقال عن ذلك المشروع إنه مشروع يعبر عن الأصالة الثقافية للحضارة الاسلامية. ومن هنا كان انحياز بدوى لهيدجر وليس لسارتر. وقد سرد ثلاثة أسباب لهذا الانحياز فى كتابه المعنون سيرة ذاتية والذى صدر فى جزءين فى عام 2000، أى مع بداية القرن الحادى والعشرين. السبب الأول مردود إلى قوله إنه من جيل ألقى به فى عالم غريب محكوم بقوى أوروبية وأنه يرفض هذا المصير التعس. ومن هنا اشتهى هذا الجيل أن يتحرر من ذهنية العبيد لكى يدخل فى ذهنية الأحرار. وفى هذا السياق تعاطف بدوى مع حزب مصر الفتاة. وفى حينها ارتأى ضرورة الاتصال بزعمائه، وقد كان. وقد ترتب على ذلك دفاعه عن ذلك الحزب ضد أى هجوم عليه بل دفاعه عن النازية التى هى السبب فى مولد ذلك الحزب. ومن هنا لم يكن ثمة عائق أمام بدوى فى شأن الانحياز لهيدجر. والسبب الثانى مردود إلى أن ثمة علاقة عضوية بين هيدجر والتصوف الاسلامى إذ كل منهما يبدأ من وجود الفرد ويضعه فوق كل اعتبار، أى فوق وجود الآخر حتى لا يبقى إلا ذلك الوجود الفردي. وفى التصوف الاسلامى هذا الوجود الفردى يمثله الانسان الكامل. ومن هنا اهتم بدوى بتأليف كتاب عنوانه الانسان الكامل وهو يعنى الانسان على نحو ما يراه المتصوفان الإسلاميان الشهيران ابن عربى والحلاج، وهو يعنى عندهما أن الله قد خلق آدم على صورته، ولهذا فإنه يستحق أن تكون لديه الصفات الإلهية، أو فى صياغة بدوى تأليه الإنسانية وتأنيس الألوهية. وهذه الصياغة تدل على إمكان عبور الهوة بين الخالق والمخلوق، ولكنه عبور لحساب المخلوق لأن هذا العبور ينطوى على إحالة المخلوق إلى خالق. والسبب الثالث فى إيثار بدوى لهيدجر على سارتر مردود إلى أنه عندما قرأ كتاب سارتر المعنون الوجود والعدم والذى قيل عنه إنه كتاب فى الوجودية فإن بدوى لم يجد فيه شيئاً من الوجودية بل وجد فيه خليطاً من التحليلات النفسية. هذا بالاضافة إلى أن بدوى يكره الماركسية وما أفرزته من شيوعية وكان سارتر متعاطفا معها. وكان من شأن هذا التعاطف أن أصدر كتاباً فى عام 1961 تحت عنوان نقد العقل الديالكتيكي. والذى دفعه إلى القول بهذه الفكرة تصوره أن الفلسفة الحية هى الفلسفة التى تدافع عن الطبقة الصاعدة فى أى عصر من العصور. وحيث إن الطبقة المعاصرة هى الطبقة العاملة فيلزم من ذلك أن تكون الماركسية هى الفلسفة الصاعدة. ومن هنا تساءل سارتر: ماذا يكون مصير الوجودية أمام الماركسية؟ يجيب فيقول: إن الوجودية ليس أمامها إلا أحد أمرين: إما أن تحكم على نفسها بالانقراض وإما أن تذوب فى الماركسية. والوجودية ليس من الممكن أن تنقرض لأنها تلتزم الواقع وكل ما هو عيني. إذن ليس أمامها سوى الذوبان فى الماركسية. والمفارقة بعد ذلك تكمن فى أن كلا من هيدجر وبدوى توقف عن استكمال مشروعه الفلسفي. فقد بدأ هيدجر مشروعه باصدار الجزء الأول منه فى عام 1927 ومات بعد خمسين سنة دون أن يصدر الجزء الثاني. أما ما أصدره من مؤلفات أخرى فكانت دراسات عن فلاسفة. وهكذا كان حال بدوى مع فلسفته التى صاغ بدايتها فى كتابه المعنون الزمان الوجودى والذى أصدره فى عام 1945 ووعد فيه القارئ بتقديم دراسة مفصلة عن المنطق الجديد الذى ينطوى عليه مذهبه الفلسفى والمسمى منطق التوتر وهو منطق الوجدان وهو منطق على الضد من منطق العقل لأنه يلزم الانسان بالتعايش مع المتناقضات دون أى محاولة لازالتها. ولكنه مات بعد سبع وخمسين سنة دون أن يصدر كتاباً عن ذلك المنطق. أما ما أصدره من مؤلفات أخرى فلم تكن إلا ترجمات أو تحقيق نصوص فلسفية. وأظن أن التماثل بين الحالين مردود إلى انبهارهما بالنازية، والنازية قد انتهت مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وبعد ذلك واجه بدوى مطاردات من مؤسسات، الدولة سواء كانت الجامعة حيث يقوم بالتدريس بها أو كانت اللجنة العليا لتصفية الاقطاع حيث التحفظ على الأراضى الزراعية المملوكة لبدوى ولأسرته. وفى يوليو 1966 دعته كلية الآداب بجامعة باريس إلى إلقاء محاضرات فقرر عندئذ أن يكون سفره إلى باريس هو الهجرة، وقد كان، إذ تمت فى 19 فبراير 1967 وبلا رجعة. وبعد ذلك بأسبوع كانت زيارة سارتر. وقيل عنها إن سارتر كان فى بدايتها بطلا وفى نهايتها خائنا، إذ قال فى اسرائيل ما كان قد امتنع عن قوله فى القاهرة، وهو أن اسرائيل دولة أصيلة ومتحررة، وهو قول منسوب إلى مؤسسها هرتزل، ومن ثم أصيبت النخبة العربية بإحباط، ومن هنا أثير السؤال مرة أخري: هل من مخرج؟ لمزيد من مقالات د. مراد وهبة