بقلم :أحمد عبد المعطي حجازي وأنا أكتب هذه الافتتاحية للعدد الافتتاحي من الملحق الثقافي الجديد الذي يستأنف به الأهرام قيامه بدوره المتميز في الحركة الأدبية المصرية, أستدعي صور الكتاب والشعراء والنقاد والرسامين والمفكرين الكبار الذين زودوا الأهرام بمقالاتهم وقصائدهم وقصصهم ورواياتهم ورسومهم,وأسهموا في تحرير صفحاته الثقافية منذ صدرت هذه الجريدة في سبعينيات القرن الأسبق إلي اليوم, أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي, وشاعر القطرين خليل مطران, وعلي محمود طه, وكامل الشناوي, وتوفيق الحكيم, ونجيب محفوظ والواقع أن ازدهار الستينيات يعود قبل أي شئ لليقظة العارمة التي عرفتها الثقافة المصرية في الأربعينيات, حيث نضجت الحركة الوطنية المصرية, وتفجرت المشكلة الفلسطينية, ودارت رحي الحرب العالمية الثانية في كل الجبهات, وأخذ المصريون يتحدثون عن الفاشية والنازية, والرأسمالية والشيوعية, وأخذ العمال يطالبون بحقوقهم وينظمون أنفسهم, بينما كان المثقفون يشاركون في الحياة السياسية كما فعلوا دائما وينشئون منتدياتهم ويصدرون صحفهم ومجلاتهم. وفي هذا المناخ تبلورت التيارات الفكرية والفنية الاصيلة والوافدة, واستطاعت أن تعبر عن نفسها وتتحاور مع غيرها, الكلاسيكيون, والرومانتيكيون, والسورياليون, الليبراليون, والاسلاميون, والشيوعيون, والاشتراكيون, طلاب الجامعة وطلاب الأزهر. هؤلاء جميعا انخرطوا في حركة فنية كانت لها امتداداتها في مختلف الأقطار العربية واتصالاتها الحية بمراكز الثقافة العالمية. فلاعجب أن تزدهر الصحافة الأدبية في تلك السنوات وأن تصدر في مصر حوالي عشرين مجلة أدبية منها المجلة الجديدة التي كان يصدرها سلامة موسي, و الرسالة مجلة أحمد حسن الزيات, و مجلتي التي أصدرها أحمد الصاوي محمد, و الثقافة, و الفجر الجديد, والكاتب المصري التي رأس تحريرها طه حسين, و الكتاب و الأديب المصري, و الرواية, و القصة. هذا المشهد بلغ أوج ازدهاره في الستينيات وفي الأهرام بالذات. لكن أسبابا أخري في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات حاصرته وحرمته من أسباب بقائه فظل يتراجع ويخفت وتذبل أوراقه وتتساقط حتي لم يبق منه أثر. لم تبق منه الأصورة توفيق الحكيم التي رسمها له صلاح طاهر وعلقها الأهرام علي الحائط الخارجي لمكتب الحكيم الذي وضع لي مكتب فيه لاأدري من سيرثه بعدي؟! هل يقدر لمكتب توفيق الحكيم صاحب قلم يحتله فيذكرنا بصاحبه الأول؟ هل تكون ثورة يناير إيذانا بعودة جديدة للروح كما كانت ثورة1919 إيذانا بالعودة الأولي التي مجدها توفيق الحكيم؟ وهل يقدر للثقافة المصرية أن تزدهر من جديد بعد أن افترسها الطغيان طوال العقود الماضية وأصابها بالعقم والفهاهة والركاكة والنفاق؟ وهل يستطيع الأهرام أن يحتضن هذا الازدهار ويراعاه ويفتح الطريق للروح في عودتها الجديدة؟ نعم: ولكن بشروط يناير. بالدولة المدينة, والنظام الديمقراطي. بالعدالة الاجتماعية, وتداول السلطة, وحرية التفكير والتعبير والاعتقاد. هذه الشروط ليست مجرد إطار خارجي وليست مجرد عوامل مساعدة, ولكنها أصول وقوانين ثابته لأتزدهر الثقافة إلا بها. الثقافة مبدع حر, وجمهور حر, مبدع مغامر مجتهد يكتشف لايراقبه أحد ولايفتش في ضميرة أحد. وجمهور يسأل ويجيب, يقبل ويرفض, ويميز ويختار. وهذا هو المناخ الذي إزدهرت فيه الثقافة المصرية في القرنين الماضيين. وهذا هو المناخ الذي ازدهرت فيه ثقافة النهضة الأوروبية. وهو المناخ الذي ظهرت فيه الصحافة الأدبية ولعبت دورها المشهود في أوروبا وفي العالم كله. لم يكن مقدرا للصحافة أن تظهر أو تزدهر إلا في الوقت الذي لم تعد فيه الثقافة الرفيعة امتيازا طبقيا لنخبة محدودة, وأصبح لها جمهور واسع يحتاج لها ويبحث عنها ويصل إليها عن طريق المخترعات التي ظهرت في عصر النهضة الأوروبية وأهمها المطبعة. ومن المعروف أن المطبعة ظهرت في القرن الخامس عشر فمكنت الأوروبيين من طباعة الكتب ونشرها, أما المجلات فلم تظهر إلا بعد اختراع المطبعة بقرنين اثنين لتحول الكتب إلي مادة أبسط وأقل وأقدر علي الوصول إلي الجمهور غير المتخصص. وباستطاعتنا أن نعتبر الملحق الثقافي صورة مصغرة للمجلة أو جسرا ممتدا بين المجلة والكتاب, كما أنه جسر ممتد بين كبار المثقفين وعامة والقراء. جسر للتواصل والحوار الخلاق الذي لايكون فيه الجمهور مجرد مستهلك أو متلق سلبي, بل يكون طرفا إيجابيا يتمتع برصيد من الثقافة والتطلع يتيح له أن يقرأ النص بأبعاده المختلفة, ويضيف إليه فهمه له وتذوقه, كما يتيح له أن يري رأيه في النص ويعبر عنه فيساعد الكاتب والناقد, ويسهم في إنضاج الحركة الأدبية وتخليصها من الآفات التي لحقتها وهزت الثقة فيها فأصبحت علي مانراه الآن. يكفي أن نقارن بين عدد المجلات التي كانت تصدر قبل ستين عاما وعددها الآن. قبل سنتين عاما كان تعداد المصريين لايزيد عن ثمانية عشر مليونا, وكان عدد المجلات الأدبية التي تصدر في مصر حوالي عشرين مجلة كما ذكرت من قبل. والآن تضاعف عدد المصريين خمس مرات, وتضاءل عدد المجلات وتناقص خمس مرات. هل يكون صدور الملحق الجديد ل الأهرام إيذانا بتصحيح هذه الأوضاع واستئناف النهضة؟ هل تتخلص الحركة الأدبية المصرية من الأدعياء والمرتشين وتستعيد شبابها, ونقاءها, واستقلالها, وثقة الناس فيها؟!