كثيرة هى المنتديات والمؤتمرات التى عقدت لمناقشة تأثير وسائل التواصل الاجتماعى الحديثة على المجتمعات العربية، ولكن قليلة هى تلك المنتديات التى ألقت حجرا فى المياه الراكدة، وأثارت هذا القدر من الجدل حول ما دار فيها من تفاصيل، فقد لمس هذا المنتدي، وبجرأة غير مسبوقة، قضية بالغة الحساسية، وهى فرص وقدرات السوشيال ميديا على إحداث تأثير إيجابى فى دولة مثل المملكة العربية السعودية، على خلاف التأثير السلبى والمؤلم الذى أحدثته فى دول أخرى بالمنطقة فى حقبة ما يسمى «الربيع العربي»، الحقبة الشاهدة على الجانب المدمر لكائن السوشيال ميديا الخرافي! فبحضور أكثر من ثلاثة آلاف شخصية سياسية وإعلامية، معظمهم من محترفى عالم السوشيال ميديا من مختلف أنحاء العالم، شهدت العاصمة السعودية الرياض أعمال منتدى «مسك» الإعلامى فى نسخته الأولي، ضمن جهود مركز المبادرات بمؤسسة محمد بن سلمان «مسك الخيرية» للاضطلاع بمسئوليته الاجتماعية تجاه ضرورة التواصل المباشر مع شباب المملكة والعالم، حيث شهد المنتدى أكثر من 30 فقرة تنوعت بين جلسات نقاش رفيعة المستوى بمشاركة رموز سياسية وإعلامية من الوطن العربي، وعروض، وورش عمل، وحلقات حوارية، شاركت فيها نخبة من المتخصصين فى مجال التكنولوجيا الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعى على مستوى العالم. وخلال الجلسة الأولى من المنتدي، تحدث الأمير تركى الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، للإعلامية الشهيرة ريما مكتبي، عن قضية «توظيف الإعلام»، وكيفية التصدى للفوضى وتعزيز الاستقرار، وأعرب فى هذا الصدد عن وجهة نظره بشأن ضرورة إلغاء وزارات الإعلام فى عالمنا العربي، لعدم وجود تأثير لها على وسائل الإعلام فى الفترة المقبلة، وبخاصة الوسائل الحديثة منها، وأثارت دعوته هذه ردود فعل واسعة، لدرجة أن شبكات إعلامية غربية طرحت اقتراح الفيصل على الجمهور العربى لإبداء رأيه فيه تفصيلا. ولكن فى الوقت نفسه، طالب تركى الفيصل بضرورة وضع قوانين تضبط فوضى الإنترنت وعمل وسائل التواصل الاجتماعى لمنع انتشار الأخبار الزائفة Fake news واستغلالها من قبل جماعات الإرهاب فى منطقتنا، ولكن بما لا يقيد حرية التعبير، وهى الدعوة التى قوبلت بتصفيق حاد من الحاضرين ومعظمهم من الشباب والفتيات. واعتبر أن كل من يزور المملكة للمرة الأولي، تنعكس عليه الدهشة مما شاهده، وبعد عودته إلى بلاده، يبدأ فى إبلاغ الآخرين بأن ما سمعوه عن المملكة لم يكن حقيقيا. وعلى الرغم من إقرار الفيصل بأنه يملك حسابا على تويتر فضل عدم الإفصاح عنه، ورغم اعتماده على تويتر فى معرفة الأخبار العاجلة، فإنه أكد فى الوقت نفسه أنه لا يبدأ يومه قبل أن يقرأ الصحف. وفى الجلسة الثانية، التى حملت عنوان «من يصنع الرأى العام.. الحقيقة أمام وهج الدعاية»، تفاعل الحاضرون كثيرا مع ما طرحه الإعلامى عماد الدين أديب من اقتراحات للسلطات المعنية فى دولنا العربية بضرورة توخى السرعة عند نقل المعلومة فور وقوع الحدث، حتى لا يصبح المتلقى فريسة سهلة للأخبار الزائفة التى تأتيه بسرعة فائقة عبر السوشيال ميديا. وشدد أديب على ضرورة التحرك بلغة العصر الجديد حتى لا تذهب المساحات المتوافرة ويتم ملؤها من قبل «معادين»، مشيرا إلى أن وسائل التواصل الاجتماعى تشهد طرحا خارجا عن سيطرة الحكومات أخلاقيا. أما وزير الإعلام البحرينى على الرميحى فذكر أن هناك كثيرا من الصراعات فى العالم الافتراضى تختلف عن الصراعات فى الواقع، مستدلا بمحاولات تشويه الصورة التى تتعرض لها المملكة العربية السعودية عبر وسائل التواصل الاجتماعى والقنوات الفضائية، إلا أن الحقيقة فى نهاية الأمر تفرض نفسها. واعتبر الرميحى أن وسائل الإعلام التقليدية ما زالت تملك التأثير لأنها صادقة، محذرا فى الوقت نفسه من مؤسسات يتم تمويلها من جهات خارجية تسعى للتحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعى للتأثير على الرأى العام، ومستشهدا بوجود أكثر من 100 ألف حساب على «تويتر» تخدم أجندة أحد التنظيمات الإرهابية. كما حذر الرميحى فى الجلسة نفسها من تراخى الجهات الحكومية فى العالم العربى عن إنشاء مراكز محلية لقياس مؤشرات الرأى العام، معتبرا لجوءها إلى شركات قياس خارجية خطأ فادحا يجب تداركه. وكانت من أبرز أحداث المنتدى أيضا الجلسة الحوارية بعنوان «تسخير شبكات التواصل الاجتماعى لخدمة المجتمعات» بمشاركة خالد أبو شيبة المشرف على الإعلام الرقمى بمركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، وعبدالله الخريف صانع المحتوى المترجم، بالإضافة إلى جلسة أخرى عن المحتوى وكونه أساسا للتفاعل بمشاركة عمر الجريسى صانع المحتوى على مواقع التواصل، وعبدالله البندر مقدم البرامج بقناة «سكاى نيوز»»، كما قدم الخبير الاستراتيجى فى مجال الابتكار أندريس سورمان نيلسون عرضا عن مستقبل تجربة المستخدم فى شبكات التواصل الاجتماعي، كما قدمت صانعة المحتوى إيمى لاندينو عرضا بعنوان «دليلك إلى صناعة أعمالك فى عالم الإبهار المرئي»، أشارت فيه إلى أن المحتوى المرئي، وبخاصة الفيديو، سيستحوذ على 80% من المحتوى فى وسائل الإعلام بحلول عام 2020. ومن بين الجلسات الثرية أيضا جلسة «اقتناص الفرص» التى شارك فيها ديفيد تومشاك رئيس التحرير الرقمى فى صحيفة «إيفينينج ستاندر»، وجلسة بعنوان «تفاعل الحكومات فى شبكات التواصل الاجتماعي»، وجلسة ثالثة استعرض فيها عضوان الأحمرى رئيس تحرير صحيفة «إندبندنت عربية» قضية الأخبار الكاذبة، وطرح خلالها مجموعة من النماذج التى عانت منها وسائل إعلام عالمية، مؤكدا أن هناك صورة ذهنية نمطية ترى أن الإعلام الغربى لا يخطئ، مقابل ما سماه «احتقار وسائل الإعلام العربية»، فقال مثلا إن جاك كيلي، وهو صحفى فى إحدى الصحف الأمريكية، استمر عشر سنوات يؤلف قصصا كاذبة، وحاز على جوائز عالمية فى الصحافة والإعلام، وهو كان يؤلف قصصا كاذبة تنطلى على متابعى تلك الصحيفة، كما كان هناك جيسون بلير الذى كان يكذب لعدة سنوات ويؤلف قصصا صحفية وتحقيقات مفبركة، وهو لم يخرج من شقته فى إحدى الولاياتالأمريكية، كما استعاد الأحمرى للذاكرة اعتذار أسبوعية «ديرشبيجل» الألمانية على صدر صفحتها الأولى فى ديسمبر الماضى بعد نشرها تحقيقات صحفية مفبركة. ومن أكثر فقرات المنتدى إثارة أيضا، الجلسة التفاعلية التى استعرضت إحدى أنجح الحملات الرقمية خلال عام 2018، والتى أطلقتها وزارة التجارة والاستثمار السعودية، وواكبت فيها التوجهات الحديثة فى استهداف الجمهور بشكل غير مسبوق على مستوى الجهات الحكومية، حيث سخرت الوزارة القنوات الرقمية لإحداث أثر اجتماعى يصب فى تحقيق أهدافها التوعوية، ولاقت حملة استدعاء المنتجات المعيبة «#سلمنى واسلم» انتشارا كاسحا تخطى حدود ال250 مليون مشاهدة على وسائل التواصل الاجتماعي، وسط جمهور مؤيد ومعارض للأسلوب اللا معهود من جهة حكومية يتسم خطابها عادة بالرسمية والجدية، بدليل أن هذه الوزارة أطلقت خلال 3 سنوات حملة استدعاء شملت أكثر من مليونى مركبة ونصف مليون سلعة استهلاكية ولم يصل التجاوب مع الحملة لأكثر من 20%، فى حين حققت حملة «#سلمني_واسلم» نجاحا كاسحا تجاوز 100% عن الفترة السابقة، حيث وصل معدل التجاوب ل44%، وهى نسبة يصعب تحقيقها بسهولة على مستوى الحملات التقليدية. خلاصة مناقشات منتدى «مسك» الإعلامى كانت : «هل يمكن أن تصبح السوشيال ميديا عنصرا إيجابيا، لا سلبيا، ومواطنا صالحا، لا مدمرا، فى المرحلة الانفتاحية الحالية التى تمر بها المملكة، وعلى مستوى عالمنا العربي»؟