48 ساعة درامية عاشها حزب العمال البريطانى بعد استقالة 8 من نوابه فى البرلمان احتجاجاً على «أسلوب قيادة» زعيم الحزب جيرمى كوربين، وانتشار ما وصفوه ب «ثقافة التسلط والتعصب الأعمي» فى الحزب، ومعاداة السامية، والإحباط من سياسة الحزب حيال ملف البريكست، وتردد كوربين فى تأييد استفتاء شعبى ثان. هذا الانقسام هو التحدى الأكثر خطورة الذى يواجه وحدة حزب العمال منذ استقالة «عصابة الأربعة» من الحزب عام 1981 لتشكيل الحزب الديمقراطى الاجتماعي. بعبارة أخري، الصدع الآن هو أكبر صدع فى الحزب منذ ما يقرب من 40 عاماً، لكن موجة الاستقالات لم تكن بمثابة صدمة، فالحرب الداخلية فى حزب العمال كانت تعتمل منذ أشهر، لكن توقيت الاستقالات يطرح تحديات كبيرة أمام زعامة كوربين. كما أنه يؤثر على مفاوضات البريكست بشكل مباشر. فالاستقالات تأتى فى وقت حاسم للغاية، وقبل خمسة أسابيع فقط من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بدأت الدراما السياسية بإعلان النواب تشوكا أومونا و أنجيلا سميث ومايك جابس وكريس ليزلى وغافن شوكر/ ولوسيانا بيرغر وآن كوفى استقالتهم من الحزب، موضحين أنهم سيجلسون ك «مجموعة مستقلة» فى البرلمان ويأملون فى تشكيل «حركة سياسية جديدة» تجمع «تيار الوسط» فى السياسة البريطانية، بعدما بات الحزبان الكبيران فى البلاد أى المحافظين والعمال تحت رحمة الأجنحة الأكثر راديكالية. وبعد ذلك بيوم أعلنت النائبة جوان راين استقالتها هى الأخرى لتصبح ثامن عضو يستقيل من الحزب. ومع ذلك لا يُعتقد أن موجة الاستقالات بصدد الانحسار، وسط مؤشرات على اعتزام عدد آخر من نواب الحزب الاستقالة خلال الأيام المقبلة إذا لم تغير قيادة الحزب مسارها وتتحرك بسرعة نحو دعم استفتاء ثانٍ بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والالتزام باتخاذ المزيد من الخطوات لاجتثاث ثقافة التعصب وتهميش المخالفين فى الرأى لجيرمى كوربين، ووقف ما يراه البعض «التأسيس لمعاداة السامية» داخل الحزب. انشقاقات تولد انقسامات: وولدت الانشقاقات «انقسامات إضافية» داخل حزب العمال. فكثير من نواب الحزب اعتبروا المستقيلين «خونة» ألحقوا الضرر بسمعة الحزب وزعيمه بسبب استقالاتهم فى هذا التوقيت الحاسم فى تاريخ بريطانيا. لكن المستقيلين دافعوا عن أنفسهم مشيرين إلى أنه بسبب «التحديات المصيرية» التى تمر بها بريطانيا كان يجب أن يقدموا على خطوتهم هذه. وفى كلمته التى شرح فيها سبب استقالته، قال النائب تشوكا أومونا: «فى ضوء ما شهدناه خلال السنوات الثلاث الماضية...ليس لدى ثقة فى زعيم الحزب، جيرمى كوربين، وفريقه لاتخاذ القرارات الصحيحة لحماية أمننا القومي». وتابع اومونا، أحد أبرز المؤيدين لاجراء استفتاء شعبى ثان على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: «إن الفشل الجماعى للحزب فى أخذ زمام المبادرة وتقديم معارضة قوية ومتماسكة بما فيه الكفاية لسياسة حكومة المحافظين فى ملف علاقة بريطانيا مع أوروبا... هو خيانة لمصلحة حزب العمل»، متهماً كوربين بعدم بذل الجهد الكافى للدفاع عن بقاء بريطانيا فى الاتحاد الأوروبى خلال استفتاء 2016. كما انتقد الخطة التى قدمها كوربين إلى رئيسة الوزراء تيريزا ماى لدعم خطتها للبريكست إذا ما التزمت ببريكست «ناعم»، موضحاً أن قيادة حزب العمال تساعد عملياً حكومة المحافظين فى تمرير «خطة سيئة للبريسكت». كما انتقد، مع النواب الآخرين، ضعف الخطوات التى اتخذها الحزب لمواجهة الاتهامات ب «التعصب» و«معاداة السامية» و«التسلط». وفى أول رد فعل له على الاستقالات الجماعية، دعا نائب زعيم حزب العمال توم واطسون، كوربين لتغيير الاتجاه أو مواجهة انقسام أكبر فى الحزب، معلناً أنه هو نفسه فى بعض الأحيان «لم يعد يتعرف» على حزبه بسبب التغييرات التى حلت به منذ تولى كوربين القيادة. وحث واطسون زعيم الحزب على ضمان بقاء الحزب ك «تيار عريض للأفكار»، وإعادة تشكيل حكومة الظل الخاصة به ليعكس توازنا أوسع بين نواب الحزب فى البرلمان. ومن المعروف أن حكومة الظل تتكون فى غالبيتها من عناصر من مؤيدى وداعمى كوربين وسياساته. «ستالينى الطابع» ومع ذلك، لم يكن الجميع متفهماً لأسباب الانشقاقات داخل الحزب. فالموالون لكوربين شنوا حملة شعواء ضد المستقيلين على وسائل التواصل الاجتماعي، متهمين أياهم بإلحاق الضرر بالفرص الانتخابية للحزب . كما دعا جون ماكدونيل، حليف كوربين المقرب ووزير الخزانة فى حكومة الظل، النواب المستقيلين إلى «فعل الشيء المشرف» والاستقالة من البرلمان لخوض انتخابات فرعية جديدة. أما أقسى رد فعل فجاء من حركة «مومنتوم»، الحركة الأم لعشرات الآلاف من أنصار كوربين، التى وصفت النواب المستقيلين ب «أقلية هامشية» يريدون العودة إلى «برنامج رئيس الوزراء الأسبق تونى بلير بخصخصة الاقتصاد وخفض الضرائب على الأغنياء» وأن مقترحاتهم حول تشكيل «تيار وسطي» سياسى «لا معنى له». ووسط كيل الاتهامات من حركة «مومنتوم» لمعارضى كوربين، تنسى الحركة أنها إلى حد كبير مسئولة عن المأزق الكبير الذى يجد فيه كوربين نفسه الآن. فكوربين إلى حد كبير هو «نتاج» تلك الحركة التى رأت فيه «الرسول المناسب» كى ينقل الحزب إلى اليسار أكثر من أى زعيم آخر لحزب العمال ربما منذ السبعينيات وذلك رداً على سنوات تونى بلير التى يكرهها أعضاء «مومنتوم». وفى سعيهم لدعم كوربين أمام معارضيه، تعامل أعضاء الحركة، بعدما أصبحوا أعضاء نافذين داخل الحزب، مع أى معارضة ب«القبضة الحديدية». وبات من الصعب جداً انتقاد كوربين أو سياساته دون التعرض لموجات من الهجوم العنيف على وسائل التواصل الاجتماعي. بل إن نوابا فى البرلمان تعرضت مكاتبهم فى دوائرهم الانتخابية لهجمات، دفعت الشرطة لتعيين حرس شخصى لهم لبعض الوقت. ولا عجب أن تشير إحدى النائبات المستقيلات إلى «أسلوب ستالين» فى الإدارة داخل حزب العمال. شهية بريطانية لتيار وسط جديد لم يعلن النواب الثمانية المستقيلين عن تشكيل حزب سياسى جديد بعد، لكنهم حثوا أعضاء البرلمان الآخرين وأعضاء الأحزاب الأخرى على الانضمام إليهم فى «بناء تيار سياسى جديد». وهناك احتمال حقيقى لحدوث ذلك. فعدد من نواب حزب المحافظين الحاكم أيضا استقالوا وسط سخط على إدارة ملف مفاوضات البريكست، ورفض رئيسة الوزراء تيريزا ماى استبعاد خروج بريطانيا من الاتحاد بدون اتفاق. من بين الوجوه البارزة فى حزب المحافظين التى استقالت النواب آنا سوبرى و سارة ولستون وهايدى ألن. وإذا، وانضم هؤلاء للمستقيلين من حزب العمال، فقد تكون هذه بداية نواة حزب سياسى جديد قادر على نيل دعم كثير من البريطانيين. و تشير استطلاعات الرأى إلى أن هناك حالة «إعياء» من الحزبين الكبيرين، ورغبة فى «تيار وسط» جديد يعبر عن البريطانيين الرافضين للبريكست والذين يريدون النكوص عنه عبر استفتاء ثان أو إلغاء المادة 50 من معاهدة لشبونة. وفور الاعلان عن استقالة نواب حزب العمال، أشار استطلاع لمحطة «سكاى نيوز» البريطانية إلى أن هؤلاء النواب إذا ما شكلوا حزباً سيكون أكثر شعبية من «الأحرار الديمقراطيين»، أى سيكون ثالث الأحزاب فى انجلترا من حيث الشعبية. من المبكر جداً طبعاً معرفة ما ستئول إليه الأحوال فيما يتعلق بذلك التيار السياسى الجديد،ولكن الشيء المؤكد أن حزب العمال يمر بأزمة كبيرة. ومع أن قيادة الحزب وعدت ب«الإنصات» لأصوات المعارضين وأخذ النصائح فيما يتعلق بأسلوب القيادة والسياسات ومعاملة المختلفين والأقليات داخل الحزب، إلا أن الضرر قد وقع بالفعل ويشل قدرة كوربين على المساهمة فى ملف البريكست بالفاعلية التى يريدها، ويُحرج صورته أوروبياً ودولياً بوصفه «بديلا ضعيفا» لتريزا ماي. لا عجب أن تبدأ الأصوات داخل حزب المحافظين الحاكم فى ترديد أنه فى حالة إخفاقها فى تمرير اتفاقياتها للبريكست، فإنها ستدعو فوراً لانتخابات عامة مبكرة. فالبريطانيون لا يحبون الأحزاب المفككة، وإن حافظت ماى على وحدة حزبها فستكون هذه نقطة قوة مؤكدة لها، برغم فشلها فى كل شيء آخر.