تأرجح كل شيء وتراقصت الثريات الضخمة فوق رؤوسنا. قمنا لنجرى إلا أن الدكتور الكحلاوى أمسك بيدى وأخذ يرتل سورة الزلزلة ويكبر وتبعناه فى نوبة استغفار ودعاء، مرت برأسى أحداث زلزال 1992 فى مصر، حيث كنت ساعتها بالطابق الأرضى لإحدى مدارس البنات الإعدادية بمنطقة نصر الدين بمحافظة الجيزة، حينما كنت مشرفا على جماعة الصحافة والإذاعة آنذاك والأرض ترتج والحائط يتشقق قليلا مفصحا عن الطوب الأحمر وباذلا أتربته الأسمنتية ليملأ الغرفة المغلقة ترابا وغبارا. ولأننا بالطابق الأول تخيلتها آلة ضخمة من آلات رصف الطرق ودك الأسفلت وتسويته بل هما اثنتان وتحسرت على الفساد فى البناء الخفيف الذى يسعل ترابا إثر مرور آلة رصف قوية ومر بذهنى قدم وعراقة المدرسة. كل هذا وانا أستحث البنات على مغادرة الحجرة بنظام دون تدافع وأنا استجمع شجاعتى لأبدو قدوة حسنة للتلميذات وأنا أحوقل وقلبى يرتجف ولسانى يلهج بالدعاء آخر فتاة غادرت وأنا على إثرها والفناء الداخلى للمدرسة مربعة الشكل يعج بالفتيات والمدرسات وصياح زلزال زلزال افتحوا أبواب المدرسة وكانت الانفعالات متطرفة بلا عقل وأنا اقلب بصرى بين هذا وتلك ملأ آذاننا صراخ ملتاع ومتلاحق كصراخ بط حشر بين فرعى شجر بعيدا عن أمه. الصريخ يأتى من المبنى الذى أنا بإذائه والسلم الذى يؤدى إلى الطوابق الثلاثة العلوية غير بعيد عنى إلا أنه رغم الاستغاثة والتصرف الطبيعى أن تفر الفتيات والمدرسين إلا أنه ضجيج وارتطام دون نزول، فاستجمعت شجاعتى وأنا أخطو بحذر استصرخ البنات للإسراع بالنزول ولا مجيب وتعالت الصيحات من المدرسين والمدرسات "انزلوا يا بنات". عدم الاستجابة واستمرار الصراخ، جذبنى للاسراع لاستكشاف العائق وخيالى يصور لى انهيار سور عليهم أو سقوط السلالم وهو شيء قرأت عنه فى إحدى كتب سلسلة "كل شيء" عن الزلازل أحد الكتب الرائعة المترجمة فى تلك السلسلة، من أن أضعف شيء فى وقت الزلزال المصعد الكهربائى لذا يحظر ركوبه وتليه الشرفات والأسوار ثم السلالم ويجب الاحتماء بالأركان لأن الأعمدة حين تنهار تترك مساحة ملاصقة لها لأنها تتعلق بأسياخ الحديد فى أساسها والصعود إلى الأسطح أو النزول تحت المناضد والدسكات إن حوصرت لتحمى رأسك، خاصة أن كان الدور الأرضى بعيدا وإطفاء المواقد. كل هذا دار بخلدى ونظرى زائغ وأنا أخطو خائر القوى إلى أعلى متمنيا إجابة البنات اللاتى خفت صراخهن وغابت كثيرات منهن فى غيبوبة بل واختناق من انحشار لقيمات الطعام فى حلوقهن، حيث كان وقت الفسحة أو الاستراحة وسط اليوم الدراسى. ليست شجاعة منى بقدر ما كانت ضرورة تحمل المسئولية وتحمل تبعات الأخطار عن النساء والأطفال وهو قدر الرجل وقت المحن وبعد صعود حوالى 7 سلمات وعند انثناء السلم ببسطة رحبة بعض الشيء وجدت الفتيات تعثرن من الخوف ومحاولة النجاة والجرى، فسقطن فوق بعضهن البعض كصينية مكرونة بالباشميل، حيث راق فوق راق عكس اتجاهه، وهكذا كيف اشتبكن وكيف التحمن بدرجة معقدة من الانكفاء والانزواء وبعضهن حشر الطعام فى حلوقهن وزرقة تنسحب على وجوههن وحلوقهن وزاغت أعينهن أو أغلقت. أدركت أن فك هذا الاشتباك لن يتم إلا بفك أول واحدة فوقهن، لكن التى تحتها جسمها ضئيل نوعا ما وعينها دامية من ارتطام كعب حذاء إحداهن بعينها أدمى الجفن ونزف أسفل العين أو بها لا أدرى. خائر القوى من هول المنظر مع دموع فرت من عينى رغم تذرعى بالرجولة وتقمص شجاعة تصارعها هول المفاجأة من تجربة الزلزال الأول، وصوتى لا يكاد يخرج مطلقا شتائم ونداءات للمدرسين والمدرسات الواقفات بالفناء يصرخن وينتحبن، طالبا منهن الحضور لمساعدتى فالثانية فى هذه اللحضة تساوى حياة وضياعها فناء روح غضة لما تتنسم سنوات البلوغ بعد أزحت قدمين ووسط وعدة أذرع وثلاثة رءوس لا أدرى وحملتها وأنا اغالب نفسى وأتشاجر مع عقلى، ماذا لو كانت ميتة وهذا الزبد ينسل من شفتيها والدماء تتتجمع من أنفها وماء الزمزميات والدورق يبدو أنه انسكب فكان كالعجين حاولت رفعها كالغرارة والجوال إلى كتفى. وهنا صاح ديكى وماج يعلن سكوتى عن البث والفرار من الحكاية فغلبنى وطار الكلام من يدى إلى ليلة قادمة لنكمل الحكاية. لمزيد من مقالات ياسر عبيدو