استغرق الفكر الكلاسيكى فى الفنون والآداب فترة طويلة فى أوروبا.. ولم يكن أحد يظن أنه قد يأتى يوم ويتغير، فهو فكر يدين بالنظرة الجماعية والاستقرار وأن الفرد لا يستطيع أن يفعل شيئا لتتحرر فرديته ويتمرد على الفكر الجماعى، وأنه يجب أن ينظر حوله إلى الطبيعة الجميلة التى تتوافق مع طبيعة الإنسان. ولذلك ففى منتصف القرن الثامن عشر بدأت النزعات الفردية من أجل التخلص من القيود الكلاسيكية التى بالنسبة لأفكارها تتناقض مع الطبيعة البشرية. وبدأ الاهتمام المتناهى بالمناظر الطبيعية التى لم يهذبها التحضر وارتباط الأحوال البشرية بالأحوال الطبيعية التى تثير الشعور الذاتى داخل الفرد. ومن مظاهر هذا الفكر الجديد التأكيد القوى على عبادة الطبيعة والتفاعل الداخلى فى الفكر والفعل والاهتمام المتزايد نحو العبقرية الطبيعية وقوة الخيال الذى يتوهج من خلال عبقرية الطبيعة والميل إلى تمجيد الفردية والحاجة إلى الحرية فى التعبير عن الذات وإبراز ما يسمى «عقيدة المتوحش النبيل». كان أعظم ازدراء تعرض له الكثير من الأعمال الرومانسية بما فيها من عناصر متناثرة قائمة على الخيال والعواطف الجامحة الهوجاء فى عصر أطلق عليه عصر سيادة العقل Age fo Reason أو عصر الكلاسيكية الجديدة قد أمست بالنسبة للكلاسيكيين تعنى كل ما هو خرافى، باطل المعنى، بهم أو ما هو طفولى طائش. ولكن ما لبث أن تغير الحال مع أفول الكلاسيكية الجديدة بأسلوبها الفاخر الذى يدعى للمحافظة على قواعد جمالية أزلية تتصف بالطابع الشكلى، ولا تخاطب إلا نخبة ضئيلة العدد. ومن مظاهر الرومانسية فى القرن الثامن عشر الاهتمام الكبير بالطبيعة والمظهر البدائى البرى وغير المتحضر للحياة والاهتمام المتناهى للمناظر الطبيعية التى لم يهذبها البشر، وارتباط الأحوال الإنسانية بالأحوال الطبيعية. وبالنسبة لكل هذه المظاهر يعتبر جان جاك روسو الشخصية العظمى فى القرن الثامن عشر وتأثيره الكبير على الفترة الرومانسية، خاصة من خلال أعماله «مثال فى أصل التفاوت بين الناس» (1755)، وكتابه البالغ الأهمية «عن العقد الاجتماعى» (1762)، و«أحلام جوال منفرد» (1778)، وكتابه الشهير «الاعترافات» الذى طبع بعد وفاته (1781 1788). فقد قدم روسو رؤية جديدة للإنسان ودوره فى العالم، فمن خلال خبرة روسو وجد أن الإنسان أصلا طاهر الذيل وحر وسعيد، لكن المجتمع أفسده، ومصدر ذلك الملكية وعدم المساواة وطغيان الحاكم وضآلة ما يحصل عليه الفرد من السعادة. ولذلك من الضرورة العودة إلى الطبيعة بقدر الإمكان. وأدرك روسو أنه يجب أن تبقى الدساتير الموجودة، لأن الطبيعة الإنسانية لا تتراجع. ويدور كتابه «عن العقد الاجتماعى» حول التنظيم المثالى للمجتمع المثالى. وفى كتابه «جولى أوهيلواز الجديدة» (1761) يرى أنه يجب أن تكون العلاقات الطبيعية بين الرجل والمرأة تتوافق مع النظام الاجتماعى، وفى كتابه «إميل» (1762) طرح نظرية فى التعليم الطبيعى والدين الطبيعى. وقد صدمت الحملة التى شنها روسو على العلوم والفنون وعلى الحكومات القائمة، وكذلك معاصروه من أهل القرن الثامن عشر المجتمع صدمة قوية، فالعوامل التى قال إنها تعمل على إفساد الطبيعة البشرية هى إيجاد التفاوت وعدم المساواة بين الناس، كانت هى العوامل نفسها التى اعتمد عليها خصومه فى إيجاد ذلك التقدم المتصل الذى قالوا عنه إنه لا يتوقف عند حد، ومع ذلك فقد قابل روسو بشكل ما بين مشكلتى الثقافة والطبيعة مقابلة حادة، فألقى التركيز كله على الطبيعة البشرية وعزا إليها كل المحاسن والمزايا الأخرى، إذ هى فى نظره قد احتفظت على الرغم من حالتها الفجة بلا تهذيب بمظهرها الطبيعى الأول مادام زوال المساحات الأصلية لم يكن قد أوجد بعد تلك الأحوال التى أدت إلى فسادها، وأطلق روسو مقولته الشهيرة: «إن أول مجرم فى التاريخ هو الذى قام ببناء سور بين بيته وبيت جاره». وفى الواقع، فإن رأس المتاعب كلها أن المسائل قد صيغت بمعان كانت تتعلق بتركيب بنى الإنسان من جهة، وبطبيعة القواعد الاجتماعية والسلطة من جهة أخرى، على أن المشكلة الحقيقية هى العلاقة بين ما هو طبيعى وما هو ثقافى. ثم تناول كانط وخلفاؤه من الفلاسفة الألمان التحدى الذى قام به روسو بمتناقضاته المشهورة فأولوه عنايتهم، وحاولوا أن يقبلوا روسو بتفسيرهم التاريخ كله على أنه عملية ثقافية مستمرة تتهذب بها الطبيعة البشرية الأصيلة وتنتقل من حالة الحيوانية الأولى إلى الحالة الإنسانية لا شك فيها. لكن روسو وخصومه نقلوا فى بحثهم المشكلة فى شكلها الجديد كثيرا من العناصر المستمدة من الطريقة التقليدية المتبعة فى عرض هذه المشكلة. وقد ازداد الأمر هنا تعقيدا فى الفلسفة الألمانية عندما ظهرت القوميات نتيجة غزوات نابليون، فمع أن الألمان انهزموا فى الحرب، فقد انتصروا فى ميدان الثقافة وصار لهم سيادة، فيه، ومازلنا نرى ذلك الانتصار فى استعمال الكلمة الألمانية التى تدل على معنى الثقافة «Kultur» فى «الدعايات القومية الألمانية» و«الثقافة والحرية» لجون ديوى. وترى ليليان ر. فرست أن الرومانسية فى بدايتها كانت تفتقر إلى منهج كلى يناوئ المنهج القديم ونظامه الفكرى، فهى تتصف بالمرضية والتشتت بين أفراد الرواد دون تكوين جهد مشترك منسجم. ففيما بين عامى 1740 1780 تتمثل الرومانسية المسبقة فى أعمال روسو والأب بريفو وجوته الشاب فى ألمانيا وفى إنجلترا ريتشارد سون وجولد سميث وستيرن. وترى ليليان فرست أن هناك بينهم العوامل المشتركة فى الأعمال المتباينة، وهى تأكيد ما هو طبيعى ضد ما هو عقلانى، وتأكيد التلقائى ليأخذ مكان المحسوب، والحرية لتكون بديلا عن الخضوع لنسق، وهى حرية أدت بدلا من العناصر المشتركة إلى تنوع محير. فهل يؤدى ذلك إلى أن ذهبت الباحثة ليليان فرست إلى اعتبار الرومانسية المسبقة عصر الحساسية مقابل عصر العقل: أى سمات مشتركة لعصر يسبق عصر الرومانسية؟ ربما لم يكن عصر يتصف بماهية أو جوهر متجانس موحد، بل أمام مجرد شبه عائلى، وهو اشتراك فى بعض الصفات واختلاف فى بعضها الآخر، دون تماثل، وتلك الحساسية أو استدارة القلب الحساس إلى الداخل ليتأمل ذاته فيشعر بحزنه ويتفجع على مصير الإنسان لا تنتمى إلى مسارات ثقافية شاملة، بل إلى حياة الفرد الإنسانى وهو يبحث عن ذاته بإحساس حر فطرى بالطبيعة كما يبحث فى تكيفه مع قيود العالم (الرومانسية موسوعة كمبدرج فى النقد الأدبي) و(الرومانسية موسوعة المصطلح النقدى ليليان ر. فرست ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤة). لمزيد من مقالات مصطفى محرم