حضوره كان له بهجة تدفعنا للخروج من بيوتنا والسير خلفه, وصوته الغالب عليه لكنته الأجنبية وهو ينادي بالفرنسية leschanconduville أي أغاني المدينة كان يدفع النوافذ لأن تفتح والشبابيك لأن تنفرج, والسكان لأن تطل. حينها كان يتوقف ويفك الحزام الذي يربط البيانولا بظهره, ويفرد أرجلها وهو يضعها علي الأرض بتأن, ثم يعزف بعض الموسيقي العالمية التي لا نستطيع تقييمها أو تمييزها, لكننا كنا نصفق بحماسة بتزامن منضبط مع المشاهدين في الطوابق العليا, لم يكن ينظر إلينا أو يأبه لنا, فقط كان يخلع برنيطته فيظهر وجهه المدور الأحمر بصلعته الخفيفة وينحني لهم في الاتجاهات المختلفة, وكلما ناداه أحدهم كان يتقدم بالبرنيطة المقلوبة يلتقط بها العملات المعدنية ثم عندما تعود الشرفات والنوافذ إلي وضع الإغلاق.. يغادر, كان يحيرني وأنا صغير.. هذا الخواجة البائس الذي يتقدم في السن ويتسول في وطن غريب عنه ولا يعود إلي بلاده, انتهت هذه المهنة تقريبا أو هذا النوع من الاسترزاق, ولم نعد نشاهدها إلا في بعض الأفلام التي تتناول الماضي, وانتهت أيضا وسائل كثيرة للتسلية كالساحر والحاوي ولم يتبق إلا الذين يملأون أفواههم بالجاز وينفثونه نارا تلوث الجو وتزيد حرارة الصيف لهيبا, وفي منتصف رمضان الفائت انتهت حياة آخر أراجوز بمصر, كما كان يحب أن يطلق علي نفسه, مات عم محمد بعد أن تجاوز عمره الثمانين عاما بقليل, كنا نراه يسير بتؤدة وظهره محدبا من تأثير حمله لعدة شغله طوال تلك الفترة الكبيرة من عمره, عدته كانت عبارة عن قوائم خشبية مثبت عليها قماش سميك يطبقها علي شكل مستطيل, ويسرح بها وهي علي ظهره تكاد تشكل مع عظامه نسيجا متكاملا, هدفه الأول.. المقاهي ذات الكثافة العددية الكبيرة, لا يجلس علي كرسي بل يشرب شايه علي الرصيف حتي لا يدفع ثمنه مضاعفا, ثم ينصب عدته علي هيئة كشك صغير من القماش, بعد أن يضع صفارته في سقف حلقه ويدخل في قلب الكشك ويبدأ عرضه,ويتوالي ظهور التماثيل الخشبية الصغيرة التي أبدع نحتها- والتي تمثل فئات المجتمع الذي سينتصر عليها بطل عرضه الوحيد الأراجوز الذكي المحنك,المشهور بصوته المميز التي أجادت الصفارة توليفه, أنظار رواد المقهي ستختلف حوله, كبار السن ومعتادو عروضه لن ينظروا تجاهه, الشباب سيتابعونه باهتمام, الأجانب سيهتمون بتصويره ويتجاذبون الحديث معه بعد انتهاء عرضه,بعض الأطفال سيدفعهم الفضول إلي مشاكسته والدخول إليه من خلال القماش المهلهل ويضايقونه, سيوقف عرضه ويطردهم ثم يعود بعد أن يسترضيه بعض الجمهور.. كانت حكاياته القصيرة التي يقوم ببطولتها الأراجوز مليئة بالسخرية والعنصرية... فالأراجوز الخبيث الذكي سيسخر من أبناء الريف والصعايدة والنوبيين ويستغل طيبتهم وسذاجتهم ويسرق منهم عصيهم ثم يضربهم بها, أو يشاغل بنت العمدة أوشقيقة الريفي في غفلة من أهلها, او قد يلقي نكاتا صعبة عنهم, شاغبته مرة ولمته علي هذه العروض العنصرية, فتحجج بأنه تعلم المهنة هكذا, وأن هذه العروض تعجب الناس هكذا! ثم ليثبت لي وطنيته أخبرني بأنه في فترة الاحتلال الإنجليزي صنع تمثالا خشبيا لعسكري إنجليزي وجعل الأراجوز يضربه يوميا, واذا ما تصادف ومر من أمام معسكر انجليزي كان يخدعهم ويجعل الأراجوز يعطي التحية للعسكري الإنجليزي, بعد ثورة 25 يناير اعتمد عم محمد في عروضه علي الأغاني الوطنية القديمة لعبدالحليم وأم كلثوم وشادية وصار يؤديها بصوت الأراجوز مشاركة منه في الثورة,.. لكنه في الفترة الأخيرة قبل أشهر قليلة من شهر رمضان ظهر عليه العجز فجأة, وصار يكرر مقولة أنه آخر أراجوز في مصر كثيرا, وكان يطلب من اصدقائنا المخرجين لو تصادف وجودهم علي المقهي أن يستضيفوه في البرامج التليفزيونية وأن يعملوا عنه أفلاما تسجيلية, وأدهشني جدا رغبته في التوثيق لمهنته, وحين استفسرت منه عن سبب هذا الإلحاح في الظهور الاعلامي, أجابني بصوت هامس: قول لهم أنا مش عاوز فلوس.. أنا زمان لما كنت باسمع إن أراجوز تاني جه منطقة من المناطق اللي تبعي.. كان بيركبني العصبي و مبستريحش إلا لما أطرده.. لكن دلوقتي أنا رجل جوه ورجل بره..وببص حواليا ملاقتش فيه أراجوز تاني.. مش عايز المهنة دي تختفي.. وعايز الناس تفتكرها وتفتكرني.. سألته: هو مافيش ياعم محمد حد من ولادك حب المهنة دي وعايز يكمل زيك؟, شرد قليلا وقال بأسي: ابني مات من خمس سنين وولاده بيتعلموا في المدارس قلت محاولا التخفيف عنه: مفيش مهنة بتنقرض يا عم محمد.. أكيد حد حيحييها بعد فترة, مد يده إلي جيب الصديري الذي يرتديه فوق القميص وأخرج علبة من القطيفة التي توضع فيها الخواتم ودبل الزفاف, كانت القطيفة ممزقة من جوانب العلبة, والشعار المكتوب عليها باللون الدهبي أزيل معظمه, فتحها وأخرج منها الصفارة التي تساعده في إخراج صوت الأراجوز وقال لي: أنا مش حزين إلا علي الأمانة دي.. إحنا بنسميها في صنعتنا الأمانة.. عجزت عن الرد وربت كتفه وانصرفت تشغلني فكرة الأمانة التي يصر عم محمد علي تسليمها قبل الرحيل, وإحساسه بأن عمله الطويل هذا بلا جدوي إن لم يسلمها إلي من يخلفه ويحسن العمل بها.. مات آخر مبدع.. أراجوز في مصر في رمضان الفضيل, وسمعت بوفاته مصادفة من عامل المقهي الذي تصور أتي أهذي عندما سألته عن مصير الأمانة... المزيد من مقالات مكاوى سعيد