إبراهيم عبد المجيد من الأدباء الذين تحدثوا عن أسرار لحظة الكتابة, لكنهم لم يسهبوا ويشرحوا. لذلك التقت صفحة أدب معه في حوار مكرس بالكامل للحظة الكتابة وأحوال الكتابة عنده. قلت في أحد حواراتك إنك حين تنتابك الرغبة في الكتابة تعتريك رعشة ولا تتوقف إلا بإمساكك القلم, هل هي نشوة امتلاكك حالة إبداع أم هو جلال اللحظة؟ لا تفسير قاطع لهذا الإحساس, لأنه يتعلق بالتكوين الروحي للفنان, مؤكد هناك نشوة الإمساك بلحظة الإبداع, لكن أيضا هناك قلق خفي. قلق جميل. ففي هذه اللحظة يصبح العالم الحقيقي هو ما أكتبه وليس ما أعيشه. وهذا يعني ان كل الحقائق التي حولي تتحول إلي وهم, ويصبح مكان وزمان وشخصيات العمل هي الحياة الحقيقة. ومن العجيب أن شخصيات الرواية الجديدة لأي كاتب هي دائما أجمل مما حوله حتي لو كانت شخصيات شريرة. ينثال الإبداع عند إبراهيم عبد المجيد شتاء ويتوقف صيفا فهل ساعتك البيولوجية تتحرك عقارب إبداعها مع هدير نوات بحر إسكندرية شتاء وتتوقف مع نسمات بحرها صيفا؟ بالطبع كان للإسكندرية دور في هذا الاختيار. لقد أمضيت بها طفولتي وأول شبابي, ثم غادرتها إلي القاهرة في سن الخامسة والعشرين تقريبا. طبعا أزورها كثيرا لكن هذه السنوات الأولي هي الأهم في رحلة حياة أي كاتب. والإسكندرية في الشتاء مدينة جميلة. تتسع رغم المطر وربما كان المطر سبب اتساعها حتي لو بقينا في البيوت. فصوت الرعد ومشهد البرق يجعل المدينة جزءا من الكون كله. الخروج في الشوارع له لذته, خاصة علي الكورنيش بعد ان يكف المطر والبقاء في البيت ليلا له لذته لان البيت يصبح مثل صومعة دافئة. وهكذا كان الشتاء هو أعظم الأوقات التي قرأت فيها أهم الكتب وكان أيضا أجمل الأوقات للكتابة. مع الصيف تصاب الإسكندرية برطوبة شديدة, خاصة في يوليو ويونيو. كذلك تصبح مدينة مزدحمة بالمصطافين, يتحول فيها السكندريون إلي أغراب حتي تعود إليهم مدينتهم مع سبتمبر وبداية الخريف وظهور اقواس القزح علي الشاطئ بطول المدينة ووصول السمان اليها وازدحام طيور النورس فوق مياهها. في الصيف يكفي الإنسان ان ينظر إمامه. في الشتاء ينظر إلي السماء حتي لو كان في صومعته: حجرته في المنزل. وقلت أيضا إنك تشعر بفرح شديد كلما فرغت من الكتابة, وتري أن العالم أصبح أكثر اتساعا ماذا تعني؟ الكتابة كما قلت تأخذني إلي عالم أوسع وأكبر وأنشغل بها روحيا فيصبح العمل هو الحياة الحقيقية وحين تنتهي أشعر بالفراغ. خلال الكتابة انسي ما حولي. وحين أنتهي لا أعود إليه بسهولة. ما حولي لا يطلب مني شيئا استثنائيا. هو رتيب ممل لا تحدث فيه الثورات كل يوم مثلا. لذلك لا ينسيني الكتابة الا تغير كبير او حدث خارق مثل ثورة25 يناير علي سبيل المثال, التي انشغلت بها وجودا في ميدان التحرير وكتابة في الصحف وفي الفيس بوك وتويتر وغيرها. وبعد قرابة العام صار ما يحدث متكررا. الثورة تحاول أن تحقق أهدافها وأعداؤها يلتفون عليها. صار الصراع متكررا. ومن ثم اكتشفت مثلا اني قطعت في راواية جديدة لي قبل الثورة اكثر من نصفها. عدت إليها مع تكرار الأحداث حولي وأكملتها وإن كنت لن انشرها الآن. ربما آخر العام. وهكذا تكون الثورة مثل الكتابة. الكتابة تأخذني عما هو حولي لأنه متكرر وعادي والثورة أخذتني نحو عام عن الكتابة الروائية لأنها حدث أكبر من العادي ومن الكتابة نفسها. هل الإبداع يطارد كاتبه, أم أن المبدع يجري وراء الفكرة حتي يمسك بها ويصنع منها إبداعه؟ أنا من النوع الأول: أترك الإبداع حتي يطاردني. لا اجري وراء فكرة ولكن ما يثيرني اتركه يختمر في اللاشعور. إذا نسيته فلا معني له واذا عاد الي يكون حقيقيا. وهكذا ليس معي مفكرة كما كانوا يقولون عن الأدباء زمان. مفكرتي هي روحي التي تعتمد علي النسيان اكثر مما تعتمد علي الذاكرة. النسيان يعود الينا بما نشتهي. السؤال السابق يفرض علي أن أسألك كيف تلتقط أفكار أعمالك؟ ومادافعك للكتابة؟ أفكار أعمالي تأتي من الخبرة.. ومصادفة.. وربما يتسبب عمل في فكرة عمل آخر. فمثلا بعد ان كتبت رواية' لا احد ينام في الإسكندرية' جاءتني فكرة كتابة رواية' طيور العنبر'. الأولي كانت عن نقطة تحول كبري في المدينة تحت الحرب العالمية الثانية والأخري' طيور العنبر' صارت عن نقطة تحول أخري في المدينة وهي بداية الخروج الواسع للأجانب في الخمسينيات من القرن الماضي. ثم جاءت فكرة الجزء الثالث الذي انتهيت منه ولم أضع له عنوانا بعد وسأنشره كما قلت آخر العام وهو عن الإسكندرية في منتصف السبعينيات وبداية ظهور الأفكار الوهابية فيها وتحولها عن تاريخها الإنساني كمدينة للتسامح والحرية والأديان وهكذا تكون الثلاثية قد اكتملت.