إن نظرة طائر على حقل الدراسات حول الإسلام السياسي، تشير إلى تركز بعضها على عديد المحاور التى ارتبطت بأنماط السلوك السياسى العنيف والإرهابي، وسعى المنظمات الإسلامية السياسية إلى إحداث تغيير انقلابى فى بنية الدولة فى بعض المجتمعات العربية، أو فى إنتاج تغيرات نوعية فى أنظمة القيم والتعليم والثقافة والتربية بما يجافى بعض التحولات التحديثية والحداثية التى تمت فى هذه المجتمعات منذ نهاية القرن التاسع عشر لاسيما فى مصر، وبعض دول المشرق العربى وتونس والمغرب، أو فى سياق عمليات بناء الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال. دارت هذه الدراسات حول المنظمات والجماعات الإسلامية السياسية. حاولت هذه الدراسات تحليل الأبنية الإيديولوجية والتنظيمية لهذه المنظمات، وإستراتيجياتها فى تجنيد أعضائها، وأساليب عملها الميداني، وأهدافها، وتحولاتها لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر 2011، ثم مع تأسيس دولة الخلافة وانهيارها. اعتمدت بعض هذه الدراسات على السرد أو الشروح على المتون فى بعض الحالات، وهو لا يفيد كثيرا فى تحليل البنى الفقهية والإيديولوجية لهذه الجماعات عموما، وفى تحليل نظام الفتوى ولجوء جهاز الفتوى لديها - فردا كان أو مجموعة أفراد- فى طرح الأسئلة مسبقا والإجابة عنها أو الإجابة عن أسئلة تطرح عليهم من قواعدهم التنظيمية أو من خارجها، أو فى إعادة إنتاجهم لفتاوى سابقة فى تاريخ الإفتاء المذهبى السنى لبعض المدارس أو الفقهاء من الآباء المؤسسين أو من التابعين والشارحين وتابعى التابعين. إغفال ونسيان وإسقاط البُعد التاريخى للسؤال أو المشكلة المطروحة للفتوى أو طلبا للرأى والسياق الاجتماعى والسياسى والتاريخي، يشكُل تجريدا لبعض هذه الفتاوى والآراء الفقهية، ويجعلها فوق الزمان والمكان وظروف البشر ونمط معاشهم ومشاكلهم، ومن ثم يحولها من مجال الرأى البشرى الوضعى الذى يقبل الأخذ والرد فيما لا يجاوز الثوابت والأصول إلى آراء يحوطها الاحترام والتبجيل الذى يصل لدى بعضهم إلى حد الاعتقاد بمعصومية هذه الآراء من النقد. لاشك أن غياب هذا النمط من التحليل السوسيو-لغوى والتاريخى أثر سلبيا على أى محاولة لبناء سياسة دينية لمواجهة التطرف العنيف فى عديد من البلدان العربية، سواء من قبل المؤسسات الدينية الرسمية، أو الأجهزة التعليمية والثقافية والإعلامية، التى اقتصرت على تبنى الخطاب الأمنى والجنائى الذى يؤثم أنماط السلوك المخالف لقانون العقوبات. لوحظ أيضا ندرة الدراسات السوسيولوجية للتركيبات الاجتماعية للجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية التى مارست العنف والإرهاب فى عديد من البلدان العربية، وإلى أى الفئات الاجتماعية ينتمى أعضاؤها ومن أى المناطق والأقاليم جاءوا؟ من الريف أم من الحضر؟ من أى المناطق الريفية؟ وفى الحضر فى المناطق المهمشة أم فى قاع المدن..الخ؟ قليلة أيضا الدراسات حول التكوين التعليمى لأعضاء الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية والسلفيين؟ ما هى الكليات الجامعية التى تركز عليها هذه الجماعة أو تلك فى إستراتيجيتها للتجنيد ولماذا؟ وهل هناك علاقة لنمط التكوين التعليمى فى هذه الكليات وجاذبية إيديولوجيات بعض هذه الجماعات لبعض الطلاب؟ نادرة البحوث التى أجريت على تمدد الأيديولوجيا الإخوانية والسلفية بين بعض المدرسين والمدرسات فى السودان وتونس ومصر منذ عقد السبعينيات على وجه الخصوص، وخاصة فى ظل تصورات حسن الترابى حول إستراتيجية بالجهاد الأكبرا والتى أثرت على راشد الغنوشى وحركة الاتجاه الإسلامى آنذاك، والنهضة حاليا، ثم استعار هذه الأفكار بعض السلفيين فى دول المنطقة. نادرة الدراسات الأنثربولوجية والسوسيولوجية حول تحولات أنماط التدين الشعبى فى أعقاب ثورة عوائد النفط وأثرها على العمالة العربية الوافدة من مصر والسودان وسوريا والأردن ولبنان على سبيل المثال، أو أثر الجمعيات الأهلية السلفية فى إقليم النفط على دعم الجمعيات النظيرة لها فى البلدان العربية الأخري، ومن ثم انعكاساتها على تغيير أنماط الفكر والسلوك الدينى لدى بعض الفئات الاجتماعية فى بعض هذه المجتمعات. الدراسات الدينية والسوسيولوجية والأنثربولوجية حول السلوك والظواهر الدينية فى المجتمعات النفطية العربية الميسورة، تكاد تكون نادرة ومحض ملاحظات نظرية، أو بعضا من الافتراضات، نظرا للقيود على البحث الاجتماعى فى عديد من البلدان العربية للباحثين فى هذه البلدان، أو لنشر بعض هذه البحوث إذا سمح بإجرائها! ثمة ندرة قد تصل إلى حد الغياب فى البحوث والدراسات الميدانية عن أنماط التدين السائدة لدى موظفى الدولة وأجهزتها فى مصر وبعض البلدان العربية، وفى انتقال بعض أنماط التدين الريفى الشعبى إلى سلوك بعض موظفى الدولة، وتغلغل بعض الفكر السلفى والإخواني، وأثر ذلك على بعض سلوكهم الوظيفي. هل تم إجراء دراسات ميدانية من داخل بعض المؤسسات الرسمية العربية حول الاتجاهات الدينية السائدة لدى بعض العينات الممثلة لرجال الدين داخل المؤسسات الدينية الرسمية أو أجهزة الإفتاء، وتحديدا تجاه بعض القضايا المعاصرة على المستويات الكونية والإقليمية والوطنية، وذلك لكى تستطيع هذه المؤسسات وقادتها وضع برامج لتطوير الأداء فى مجال الدعوة والإفتاء أو فى الإعداد للمؤتمرات العلمية أو ورش العمل اللازمة لمواجهة بعض المشكلات التى تواجه الفكر الدينى عموما إزاء التطورات الكبرى فى عصر الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الصناعى وما تطرحه اكتشافاتهما من أسئلة جديدة تحتاج إلى اجتهادات دينية خلاقة. أسئلة تدور حول فجوة المعرفة والبحث الاجتماعى عن واحدة من القضايا الأساسية التى تواجه النظم والنخب السياسية والمجتمعات العربية، وللأسف الإجابات حولهما شحيحة، والدراسات محدودة فى ظل تراكمات من التعميمات، والتبسيطات، وأحكام القيمة واللغة المعيارية غير الموضوعية، والسياسات التى تسهم فى إعادة إنتاج المشكلات وتمددها وتراكمها وتفاقمها. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح