هل ستفتقد أوروبا المستشارة الألمانية انجيلا ميركل؟. الإجابة نعم.فعام 2018 يغادر بخسارة كبيرة لأوروبا وهو إجبار ميركل على إعلان انسحابها التدريجى من المشهد السياسى بعد نتائج انتخابية مخيبة للآمال. ففى عهدها تحولت ألمانيا لحجر الزاوية فى المشروع الأوروبي، والدولة التى لها الكلمة الأخيرة فى كل الأزمات الكبري، من أزمة منطقة اليورو إلى المهاجرين، مروراً بالبريكست والعلاقات الصعبة مع إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب. لن تغادر ميركل المسرح السياسى الألمانى والأوروبى فجأة، بل ستختفى تدريجياً من الآن وحتى 2021 بعدما أعلنت أنها لن تترشح فى انتخابات البوندستاج الألمانى (البرلمان الاتحادي) المقبلة فى 2021، وبعدما سلمت رئاسة الحزب المسيحى الديمقراطي، الذى ترأسته لمدة 18 عاماً، لزعيمة أخرى وهى أنيجريت كرامب كارنباور قبل أيام. وعندما تكمل ميركل ولايتها الأخيرة، فستكون قد قضت 16 عاما كاملة فى السلطة،أى واحدة من أكثر الزعماء الأوروبيين بقاء فى المنصب. لكن اعلان نيتها المغادرة مع انتهاء الولاية الحالية وضع أوروبا مبكراً أمام عدة أسئلة صعبة من بينها ما هو إرث ميركل السياسي؟ومن سيخلفها كالزعيم الأوروبى الأول، خاصة مع المصاعب الداخلية الكبيرة التى يواجهها الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟ وهل يمكن للمشروع الأوروبى أن يواصل التماسك مع غياب أو ضعف الوجوه المؤثرة؟. بعبارة أخرى هل ستشعر أوروبا بوطأة غياب ميركل؟
إرث سياسى معقد بالطبع لن تنظر دول الاتحاد الأوروبى لميركل بنفس العدسة أو تحكم عليها بنفس الطريقة. فاليونانيون والإسبان والإيطاليون ربما سينظرون ل»الجانب الخشن» من سياسات ميركل الأوروبية عندما أجبرت حكوماتهم المنتخبة على انتهاج سياسات تقشف اقتصادى عقب الأزمة المالية 2008. فإصرار الاتحاد الأوروبى تحت زعامتها على ضبط ميزانيات الدول المتعثرة تحت الديون أدى إلى انتهاج برامج خفض الإنفاق العام وتقشف غير مسبوق فى برامج الدعم الاجتماعي، وهى سياسات أدت إلى معاناة ملايين الاوروبيين. كما أن التقشف أدى إلى إبطاء وتيرة النمو الاقتصادى فى تلك الدول مما أسهم فى استمرار أزمات مثل البطالة والتضخم وتراجع مستويات المعيشة. وعلى النقيض من هذا دعم غالبية الألمان طريقة إدارة ميركل لأزمة منطقة اليورو، فآخر ما كانوا يرغبون فيه أن تقدم ألمانيا عشرات المليارات من اليورو لتلك الدول على حساب تكلفة دافع الضرائب الألماني. فالألمانى العادى لا يفهم منطق اليونانيين والايطاليين الذى يفيد بأنه يمكنك «الاقتراض من أجل النمو»، ففى نظرهم ووفقاً للتجربة الألمانية «ادخر ثم انفق».
«بريكست» فى قلب أوروبا أما البريطانيون والفرنسيون فسينظرون إلى أرث ميركل من منظور أنها الزعيم الذى حول ألمانيا إلى «قاطرة المشروع الأوروبي». فخلال سنوات حكمها، لم تكن ألمانيا دولة ضمن دول الاتحاد الأوروبي، لكن «قلب المشروع الأوروبى النابض» و»محركه الأول». لم يمانع الفرنسيون كثيراً. فهم أيضاً إجمالا من مؤيدى توسع المشروع الأوروبى سياسياً. لكن البريطانيين مانعوا. والتصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبى (بريكست) كان الطريقة التى رد بها البريطانيون أولا على تنامى نفوذ المانيا فى المشروع الأوروبي، وثانياً على سياسات ميركل وعلى رأسها السماح لنحو مليون لاجئ ومهاجر بدخول أوروبا بين 2015 و2017. وبات كثير من البريطانيين يدركون لماذا حاولت رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارجريت ثاتشر الوقوف فى وجه توحيد الالمانيتين. فمن وجهة نظر تاتشر ألمانيا الموحدة القوية ستكون دائماً مصدر منافسة لبريطانيا فى قلب أوروبا. وربما كان البريكست وليد تلك المشاعر، فكثير من البريطانيين كانوا يشعرون بتراجع دور بلدهم فى المشروع الأوروبى لصالح الرؤية والقيادة الألمانية. فالبريطانيون الذين عارضوا العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) وأفكار مثل «جيش أوروبى موحد» وسياسة خارجية أوروبية موحدة، وجدوا أن الاستمرار فى الاتحاد الأوروبى سيؤدى تدريجياً إلى خسارتهم خصائصهم السياسية والقانونية. وزاد الطين بله، أزمة اللاجئين، فاستقبال ألمانيا تلك الأعداد الكبيرة من اللاجئين عنى أنهم يمكن أن يأتوا إلى بريطانيا أيضا عندما يستقرون ويصبحون مواطنين أوروبيين. ولا شك أن المخاوف من قضية الهجرة، إضافة إلى أزمة اليورو أديا إلى تعزيز الرأى العام البريطانى المتشكك فى جدوى المشروع الأوروبى الذى تحدد ألمانيا ملامحه. لكن البعض فى بريطانيا يعتقد أن ميركل حاولت مساعدة بريطانيا بكل الطرق الممكنة. فقبل وقت طويل من استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، دعت ميركل رئيس الوزراء البريطانى السابق ديفيد كاميرون وزوجته وأطفالهم إلى مقرها الخاص وهذا شيء نادر جداً. وحاولت الإيضاح لكاميرون أنها لا تستطيع تغيير قواعد وقوانين الإتحاد الأوروبى من أجل دولة واحدة. لكن كاميرون مضى قدماً ودعا للاستفتاء وخرجت بريطانيا. وحتى بعد قرار البريكست حاولت ميركل مساعدة لندن ،الحصول على اتفاق جيد دون كسر قواعد وقوانين الأتحاد الأوروبي، لكن البريطانيين وضعوا خطوطا حمراء صعبة ومع أن شعبية ميركل الأوروبية لم تتراجع بشكل فادح بسبب موقفها القوى المعارض لترامب وما يمثله من قيم، ودفاعها عن المصالح الأوروبية أمام الحرب التجارية التى شنها ترامب على الصين والاتحاد الأوروبي، لكن ستظل معالجة ميركل لأزمة اللاجئين هى القضية التى ستخيم على إرثها السياسي. فقرار استضافة هذه الأعداد الكبيرة من اللاجئين قسم ألمانيا وأحدث استقطابا غير مسبوق فى أوروبا وساعد على ظهور تيارات اليمين القومى الشعبوى المتطرف التى تهدد المشروع الأوروبى اليوم. وهو «إرث كابوسي» لا تريد ميركل تحمل مسئوليته. ومع ذلك، وبعد صدمة استقبال مئات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين عام 2015، فإن ألمانيا تتأقلم الآن بشكل أفضل. وإن ظلت التساؤلات والشكوك تحوم حول النتائج المستقبلية المترتبة على استقبال هذه الأعداد الكبيرة. فهى اتخذت القرار تقريباً على مسئوليتها دون دعم كامل وواضح من الطبقة السياسية والرأى العام الألماني. فهل كان القرار مرتبطاً بمحاولة «تطهير سمعة» ألمانيا بعد حقبة النازية؟. أم كان مرتبطاً بخلفيتها الشخصية بوصفها مواطنة من ألمانياالشرقية عاشت فترة الاضطرابات وسعى الألمان الشرقيين للهروب لحياة أفضل فى ألمانيا الغربية؟ هل كان القرار دينياً اخلاقياً محضاً بسبب معتقداتها الشخصية؟. هل كان اقتصادياً-براجماتياً، فألمانيا تحتاج إلى يد عاملة شابة وزيادة فى نسبة المواليد لمواصلة معجزة النمو الاقتصادي.فالمهاجرون واللاجئون أكثرهم من صغار السن القادرين على سد الفجوة فى سوق العمل الألمانية وسط تركيبة سكانية تميل للكهولة؟. أيا كان الأمر ستظل أزمة المهاجرين أحد ملامح ارثها. وربما بعد عقدين من الزمان سينظر الألمان والأوروبيون بطريقة مختلفة لإرث ميركل. ربما سيقولون إن هذا كان هو القرار الصحيح، برغم كونه أصعب قرار اضطرت لاتخاذه خلال ولايتها الطويلة. وربما مع المراجعات سيكون الحكم أن القرار بحد ذاته لم يكن هو المشكلة، إنما «إدارة» استقبال مئات الآلاف من اللاجئين الذين دخلوا ألمانيا فى نفس الوقت تقريبا.كما سيظل ما صنعته للاقتصاد الالمانى من معدلات نمو غير مسبوقة إرث آخر ايجابي. فخلال عهدها شهدت ألمانيا طفرة اقتصادية نقلت عشرات الملايين من الفقر إلى الطبقة الوسطي. تترك ميركل زعامة حزبها وهى فى حالة من الضعف كشف عنها تراجع أداء حزبها فى الانتخابات الأخيرة فى عدة أقاليم ألمانية. لكن لا يمكن ارجاع قرار ميركل بمغادرة المشهد السياسى تدريجياً إلى تراجع نتائج حزبها فقط، فقد كان من غير المتصور أن تسعى لولاية خامسة فهذا امر نادر جدا فى أوروبا. لكن بتركها زعامة حزبها «المسيحى الديمقراطي» تضع ميركل نفسها فى وضع معقد، حيث عليها الان ليس فقط إدارة الائتلاف الحكومى الهش مع الاشتراكيين الديمقراطيين، بل سيكون عليها كذلك إدارة الحكومة الألمانية مع زعيمة جديدة لحزبها الحاكم تريد أن تضع بصمتها الخاصة، ما يضع ميركل كمستشارة لألمانيا أمام توازن دقيق.كما أن هناك قضايا يمكن أن تشكل نقاط اشتعال مستقبلية ويمكن حتى أن تكبدها البقاء فى منصبها حتى 2021 ومن بينها معالجة ملف الهجرة، الميزانية، وتوسيع الاتحاد الأوروبي. ميركل، الشخصية الساخرة خلف الكاميرات وفى الحياة الخاصة،والإدارية الألمانية الممتازة التى لا يشق لها غبار، قادت ألمانيا والمشروع الأوروبى وسط رياح عاتية وصعوبات بالغة، وفى النهاية وصلت بهما لبر أمان نسبي. وهى فى هذا الصدد أشبه بالمستشار الألمانى الراحل، هولمت كول، الذى كان أيضاً إداريا ممتازاً. وأخذاً فى الاعتبار كيف تعامل قادة أوروبا الآخرون خلال ولايات ميركل الأربعة، من سيلفيو برلسكونى رئيس الوزراء الإيطالى الأسبق، إلى ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا السابق، وفرنسوا هولاند الرئيس الفرنسى السابق والرئيس الحالى ايمانويل وماريانو راخوى رئيس وزراء اسبانيا السابق، مع مشكلات بلادهم والقارة، فإن حكم التاريخ على ميركل سيكون رحيماً ومتفهماً.