الشتاء فصل من فصول السنة؟ نعم. ولكنه يوجع قلبى ليس لإحساسى بالبرد. بسبب رؤيتى اليومية بعد أن اغتربت مضطراً للحياة فى المدينة. لفقراء المصريين الذين يتعرضون لبرد الشتاء ومطره ورياحه الثلجية. وهم محرومون من أن يكون لأى منهم سقف يستره ويحميه. فى أحد شوارع مدينة نصر، وعلى رأس الشارع توجد أسرة. امرأة مُسِنَّة وبناتها الثلاث. يعملن فى تجارة وإعداد الخضار لربات البيوت العاملات. الأربع لا مكان لهن للمبيت. وقضاء الحاجة محنة يومية. نرحب بالخلاء صيفاً. كانوا يقولون: الصيف فرشته واسعة. وهكذا الربيع والخريف. لكن المشكلة تكمن فى قسوة الشتاء. ينكوى القلب عند النوم تحت البطاطين وإغلاق الأبواب والنوافذ والبحث عن الدفء فى البيوت. أفكر فيمن يواجهون الشتاء عرايا من الأغطية ومن الجدران الأربعة ومن السقوف. وعندما يلسعنا البرد الذى لا يرحم مع لسعة المطر التى لا تغفر للإنسان عريه وحرمانه من مكان. فإن الأمر يتعدى المأساة. الأسرة التى أراها كطقس شتوى يوميا مرتين. فى الذهاب والعودة. يوجد مثلها كثيرون. فى الزمن البعيد فى خمسينيات القرن الماضى. كان لدينا مشروع: معونة الشتاء. توزع على شكل طوابع علينا. على كل المصريين. ابتداء من الكبار والقادرين وتصل حتى إلى طلبة المدارس والقرى والكفور والنجوع. لا أعرف الظروف ولا الملابسات التى أصبح هذا المشروع يسكن صفحات الماضى. مع أننا فى أمس الحاجة إليه. كتبت من قبل، ربما أكثر من مرة عن ماضى مصر المجيد مع الشتاء. منذ 57 عاما صدر قرار وزارى بإطلاق معونة الشتاء التى يدفعها المواطن من خلال طوابع على بعض الخدمات الحكومية التى يحصلون عليها كبطاقات التموين وتذاكر سفر القطارات ورسوم المدارس. تم إنشاء اللجنة العليا لمعونة الشتاء 1952 تابعة لوزارة الشئون الاجتماعية هدفها تقديم خدمات اجتماعية للفقراء والمتضررين من كوارث الشتاء خاصة بالقرى والأماكن النائية فى أثناء التغيرات المناخية والفيضانات والسيول من خلال حصيلة الطوابع التى توزع على بعض الجهات الحكومية كالتموين وهيئة السكة الحديدية والإدارات التعليمية لتذهب الأموال للجنة التى تقدم المعونات للمحتاجين. ألغيت اللجنة لأسباب لا أعرفها، لكنه للأسف الشديد حدث وجرى، وجاء القرار 84 لسنة 2002 بإنشاء المؤسسة العامة للتكامل تحت إشراف وزارة التضامن الاجتماعية ويرأس مجلس إدارتها وزير التضامن وتحول إليها حصيلة إيرادات طوابع معونة الشتاء حيث تعد أبرز وأهم مصادر تمويلها، بالإضافة للمعونة السنوية من قبل الوزارة وتبرعات المواطنين لافتا إلى تغير مفهومها من النطاق الضيق من حيث مساعدات الشتاء إلى المفهوم الأوسع للتكافل الاجتماعى، وتقديم مساعدات إلى الأرامل والمطلقات وأبناء المساجين والفقراء من خلال مساعدات مادية إما كراتب شهرى أو عينية كالبطاطين والوجبات الغذائية ومساعدات لذوى الاحتياجات الخاصة. وتم إنشاء مؤسسة بديلة للجنة شعارها من الشعب وإلى الشعب وتبدأ قيمة الطوابع من 25 قرشا لتصل فى بعض الخدمات لجنيهات وتحصل على مدى 6 أشهر. كل هذا ينتمى للماضى، أما الآن فلا أعرف مصيره. مع أن الشتاء هو الشتاء. وهمومه ومشكلاته هى نفسها. فى مجموعتى القصصية الأولى: طرح البحر، قصة طويلة عنوانها: الشتاء يأتى إلى الضهرية. فيها كل تجليات الشتاء عندما يكبس على قرية مصرية محرومة من كل ما هو موجود الآن. من النور ومولدات الحرارة والبيوت المبنية بالطوب الأحمر والأسمنت المسلح. أعود لقراءتها كل شتاء، ورغم أن كل ما فى مصر تغير. إلا أن الإحساس بالبرد كما هو، كأنه قدر. وحكاياتنا مع الشتاء لا تنتهى. مع أنه تقلص وأصبح يقتصر على شهرى ديسمبر ويناير من كل عام؟ الجو يتحرك بين تطرفين الحرارة المخيفة والبرد المخيف. مع أننا درسنا ونحن صغار أبسط تعريف للمناخ المصرى: دافئ ممطر شتاء وحار جاف صيفا. الحر الجاف ما زال موجودا. لكن أين دفء الشتاء؟! ها هو الشتاء يأتى فى موعده ويبقى حتى يلوح لنا بمناديل الوداع ونحن نقول يا ترى من يعش حتى يمر ببرده القادم؟ لكن الذى افتقدناه دفء الشتاء. كنا نقول إن دفء العواطف يعوضنا عن دفء الشتاء. وحتى العواطف تبخرت بعد أن تم تسليع كل شىء وكلمة تسليع تسللت إلينا فى سبعينيات القرن الماضى مع سياسة الانفتاح الاقتصادى التى حاولت حرماننا من مجتمعنا المتراحم المتواد، الذى يحنو كل واحد فيه على الآخر. ويحنو الكبير على الصغير، والرجل على المرأة، والقادر على المحتاج. لا أحاول إقناع أحد أن ستينيات القرن الماضى كانت الجنة المفقودة. وأن سنوات القرن الحادى والعشرين الجحيم بعينه. فأنا لا أحب النظرة الأحادية للأمور. ومؤمن بالعبارة التى جعل منها محمود دياب عنوانا لروايته البديعة: الظلال فى الجانب الآخر. ومحمود دياب روائى وكاتب مسرحى مهم. تاه منا فى غياهب النسيان. وعبارة أن الظلال تكمن فى الجانب الآخر معناه أنه لا توجد حقيقة مطلقة ووحيدة وأبدية لكل شىء. هل أجد الشجاعة لأقول إن الشيخوخة تعطى الشتاء بعدا آخر. وتجعل أيامه ولياليه تنذرنا أن الإنسان يمكن أن يموت من البرد وحده. وهو المعنى الذى كتبه صلاح عبد الصبور: ينبئنى شتاء هذا العام أننى أموت وحدى فى شتاء مثله ذات شتاء. أكتب هذا مع أننى أجد أطفالا يعانون الشتاء. وشبابا تصطك أياديهم من شدة البرد. شتاء الفقير يختلف عن شتاء الغنى. وليس فى هذا الكلام أى تمييز طبقى. بين من يملك ومن لا يملك. بين من يحتار ماذا يفعل بما يملكه. ومن يحتار كيف يحيا. لأنه ليس لديه ما يمكن أن يملكه. أقول لنفسى ربما كانت أقدارا. وأردد ربما كانت مهارات فردية تفرق بين هذا وذاك. ولكنى ما زلت مؤمنا ولن أتخلى عن هذا الإيمان أن العدل الاجتماعى فى حده الأدنى يمكن أن يقلل من هذه الأوقات العابرة التى ينظرالناس فيها إلى بعضهم البعض وهم يتساءلون: كيف ولماذا؟. التعبير الأدبى عن الشتاء شعرا سبق السرد. ولم يتسلل لمشاهد المسرح. وفى السينما نراه كتعبير عن أزمات الأبطال، أما فى الشعر، فالغناء الشتوى لا ينتهى. لمزيد من مقالات يوسف القعيد