أكتب من باريس حيث تعيش عاصمة النور، بل والمجتمع الفرنسى كله، واحدة من أصعب الظروف السياسية التى مر بها خلال العقود الأخيرة، فما شهدته باريس فى الأسابيع الأربع الأخيرة يفوق ما حدث من ثورة طلابية عام 1968 لأنه يكشف بشكل واضح عن مظالم تعيشها فئات لم يكن يلتفت إليها أحد، ولأنه يثبت أن النظام الديمقراطى الفرنسى يعانى قصورا لم يتنبه إليه أحد، وقد وضعت مظاهرات السترات الصفراء المجتمع الفرنسى كله فى حالة مواجهة مع النفس ستؤدى فى النهاية إلى تغييرات حتمية فى قواعد الحياة الفرنسية ليس فقط على المستوى الاجتماعى والاقتصادى، وإنما أيضا على المستوى السياسى. لقد هزت مظاهرات السترات الصفراء فرنسا هزا عنيفا، وقد حاول الرئيس الفرنسى فى البداية تجاهلها، ثم عمد للتقليل من شأنها، لكنه فى النهاية اضطر للتعامل معها واستجاب لمطالبها الاقتصادية، أولا لأن لجوءها للعنف والتخريب أجبر الدولة على ضرورة مواجهتها، ليس فقط بالقوى الأمنية وإنما بأخذ مطالبها مأخذ الجد، وأيضا لأن المظاهرات كشفت عن ظلم اجتماعى لم يعد من الممكن تجاهله، كما كشفت أيضا عن تكلس سياسى فى النظام الديمقراطى الفرنسى والذى لم تعد بعض المجتمعات الفرنسية الواقعة خارج باريس تشعر بأنه يعبر عنها أو يلبى احتياجاتها الفعلية. وتقدر الخسائر المادية التى نتجت عن الاضطرابات الأخيرة بما يقرب من مليار يورو، وإذا كان تكسير المحال الكبرى مثل كريستيان ديور وكالفين كلاين ومكاتب البنوك، وسرقة بضائعها الثمينة فى شارع الشانزليزيه هى أقل خسائر الأسابيع الأخيرة، فإن توقيتها ضاعف من تلك الخسائر عشرات المرات، فقد جاءت الاضطرابات فى الموسم التجارى الأكبر وهو موسم أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة، وإذا كانت مبيعات بعض المحال طوال السنة تمثل 60% من النشاط التجارى فى فرنسا فإن ال40% الباقية تجرى كلها خلال الشهر الأخير من السنة بسبب الأعياد، وقد تلقت الحركة التجارية ضربة قاصمة فى الأسابيع الأخيرة بعد أن أحجم الكثيرون عن ارتياد المحال التجارية ولجأوا إلى شراء هداياهم عن طريق الإنترنت، وقد شاهدت واجهات المحال الكبرى فى الشانزليزيه، وقد تم تغطيتها بالألواح الخشبية لحمايتها، وبدلا من التنافس فى تزيين واجهات المحال فى هذا الموسم تم حجبها عن الرؤية بألواح خشبية صماء، ومع ذلك فقد قام بعض المخربين والذين يطلق عليهم هنا تعبير les casseurs، ويتم التفريق بينهم وبين المتظاهرين الأصليين، بنزع تلك الألواح واستخدامها كوقود للنيران التى يشعلونها وسط الشارع، وقد لفت نظرى يوم الجمعة الماضى أن محل لوى ڤيتون والذى تم تكسير واجهاته فى الأسبوع الماضى قام هذا الأسبوع بتغطية تلك الواجهات بشبكات حديدية تحسبا لمظاهرات يوم السبت، التى لا يستطيع أحد أن يتنبأ إن كانت ستضم مخربين أم لا، من ناحية أخرى وصلنى من إدارة الفندق الذى أقيم به والواقع فى الشانزليزيه خطاب تم توجيهه لجميع النزلاء يؤكد أن الفندق اتخذ كل التدابير اللازمة لسلامة النزلاء، ويطلب منهم الحذر واتباع إجراءات الأمان الواجبة فى تحركاتهم فى المنطقة. أما على المستوى الاجتماعى فقد كشفت المظاهرات عن مدى الظلم الذى تعيشه بعض الفئات المطحونة سواء على المستوى الطبقى، وخاصة ما تتعرض له الطبقة الوسطى من ضغوط اقتصادية تهدد حياتها اليومية، أو على المستوى الجغرافى، حيث تعانى المجتمعات الواقعة خارج العاصمة باريس من تفرقة تتصاعد حدتها بشكل مضطرد، وقد كشفت اضطرابات الأحياء الواقعة على مشارف باريس والتى وقعت عام 2005 عن تلك التفرقة لأول مرة، لكن لم يتم معالجتها فى حينها فعادت الآن تطفو على السطح مرة أخرى وتنضم للسترات الصفراء. لقد بدأت مظاهرات السترات الصفراء منذ أربعة أسابيع كمظاهرات فئوية تعبر عن غضب فئة معينة ستتأثر بشكل مباشر من قرار رفع ثمن الوقود الذى أعلنته حكومة ماكرون، لكن مع استمرار المظاهرات بدأت تستقطب فئات من المجتمع تشعر هى الأخرى بظلم اجتماعى لا يمكن تجاهله. على أن الجانب الأخطر الذى كشفت عنه مظاهرات السترات الصفراء كان على المستوى السياسى، حيث سقطت أوراق التوت لتظهر لأول مرة عورات النظام الديمقراطى الفرنسى الذى لم يعد قادرا بشكله الحالى على تلبية احتياجات بعض الطبقات الاجتماعية ولا بعض المجتمعات الواقعة خارج العاصمة باريس، وهو ما دفع بعض النواب البرلمانيين الممثلين لتلك المجتمعات لإعلان تضامنهم مع المتظاهرين، وهو وضع ينم عن خلل فى التركيبة السياسية الديمقراطية فى فرنسا. كل هذه العوامل خرجت بمظاهرات السترات الصفراء من إطار الاحتجاجات الفئوية لتحولها بالتدريج إلى ظاهرة مجتمعية عامة تتطلب المعالجة الفورية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا بلا شك هو ما أجبر الرئيس ماكرون على الاعتراف بالمتظاهرين والاستجابة لمطالبهم بسلسلة من الإعفاءات الضريبية من ناحية وبرفع الحد الأدنى للأجور بنسبة غير مسبوقة مقدارها مائة يورو من ناحية أخرى، وهو ما سيتكلف المليارات، لكنه سيحسن بالضرورة من حدة الظلم الاجتماعى الذى تشعر به بعض فئات المجتمع الفرنسى، هذا على المستويين الاقتصادى والاجتماعى، لكن ماكرون حتى الآن لم يتعامل مع المستوى السياسى للأزمة، ولم يطرح سبلا جديدة لجعل النظام الديمقراطى الفرنسى أكثر قدرة على الاستجابة لاحتياجات الكثير من المجتمعات الواقعة خارج العاصمة التى أصبح ينظر إليها على أنها المجتمع المميز الذى يثرى على حساب المجتمعات الأخرى، وما لم ينجح ماكرون فى التعامل مع الجانب السياسى للأزمة فإن المظاهرات لن تهدأ بسهولة، وإن هدأت فإنها ستنطلق مرة أخرى إن عاجلا أو آجلا، كما عادت المظاهرات هذه المرة بعد أن تصور البعض أن اضطرابات الأحياء التى شهدناها عام 2005 قد هدأت أو انتهت. لمزيد من مقالات محمد سلماوى