كانت هذه المقالات عن ثقافة أشبه بمن ألقى حجرا فى بركة ساكنة أو راكدة حركت المياه فى دوائر مختلفة الأحجام والأبعاد، فقد تحمس على أثرها كتاب الأعمدة اليومية والأسبوعية فى الصحف تاركين الحديث. فيما لا يعنى القارئ كثيرا مشاركين فيما يشبه حملة للنهوض بالثقافة من أجل الارتقاء بهذا الوطن، حاول البعض تقديم مفهومه للثقافة ورأى البعض وجوبها وادخالها هى والتعليم فى إطار واحد يستحق الاهتمام الأهم، فيما نبتغى من اقتراب من الدول الراقية التى نقتات على فتات ثقافاتها، وقد أجمع من كتبوا على أن البناء الحضارى لن تكون له قيمة حقيقية إلا من خلال توءمة بناء الإنسان المصرى مع الثقافة وأنا أعتقد أنه لن يتم هذا إلا إذا شارك المثقفون الحقيقيون فى مصر مشاركة فعالة، وذلك بأن يحاول كل واحد منهم أن يدلى بدلوه لما ينير الطريق لفهم القارئ لمدلول الثقافة وقيمتها فى النهوض بمستوى الفرد. وقد دفعنى حماسى إلى العودة لقراءة كتاب الشاعر والناقد الإنجليزى الكبير ت.س إليوت «ملاحظات نحو تعريف الثقافة» وهو كتاب صغير الحجم كبير القيمة قام بترجمة الدكتور شكرى عياد ترجمة أمينة لم تخرج عما أراده المؤلف. يبدأ إليوت كتابه بالتساؤل عما إذا كانت هناك شروط ثابتة إذا تخلفت، فليس لنا أن نتوقع قيام ثقافة راقية؟ ومعنى ذلك كما يقول الدكتور شكرى عياد فى مقدمته لترجمة الكتاب إن إليوت يقدم لنا بالفعل نظرية إذا لم تحدد لنا ما هى عوامل نمو الثقافة فهى تكشف لنا على الأقل بعض أسباب تدهورها، ويستخدم إليوت تعبيرا مثل «العوامل الثقافية» أو «القوى الثقافية»فى صور حديثة عن قيام ثقافة راقية، وهناك تعبير آخر عن «الشروط الثابتة» وهو يعنى بالشروط هنا قيام شىء ما لا يستتبع بالضرورة قيام هذا الشىء، وإن كان امتناعها يستتبع امتناعه، وذلك بعكس «القوى» و «العوامل» التى لابد أن يترتب عليها أثر ما سلبيا أو إيجابيا. ويرى الدكتور شكرى عياد أن اختيار إليوت للكلمة الأولى فى هذا السياق يدل على جملة أشياء: 1 أن الثقافة فى نظر إليوت ليست نتاجا حتميا لقوى أو عوامل. 2 يحاول إليوت أن يقدم حلولا لمشكلات ثقافية قائمة فعلا، ولكنه يحاول أن يرسم صورة للثقافة الراقية كما يتصورها. 3 يهدف إلى نقد أفكار معينة عن الثقافة لا تلتئم مع هذه الصورة أو لا تراعى تلك الشروط. وهذا ما يجعل ما جاء فى هذا الكتاب حسب رأى الدكتور شكرى عياد مزيجا من الجدل والطوبوية، وأن نبرته أشبه بالهجوم الحذر، وهو من حين لآخر يرد نفسه عن هجماته الجدلية وأحلامه الطوبوية جميعا إلى الموضوعية البحتة، ويحاول الالتزام بتحليل الواقع، وخاصة تحليل الألفاظ. وينتقل إليوت بين هذه المواقف الثلاثة: الموقف الجدلى والموقف الطوبوى والموقف الموضوعى التحليلى، «ونحن نرى أن الموقف الأخير هو دعامة منهجه أيضا فى النقد الأدبى»، لتتضح الأفكار فى كل حالة. و يحاول إليوت أن يثبت أن الطبقة التى يتوارث أهلها الثروة والنفوذ ضرورية لازدهار الثقافة، وأن تمايز الوظائف فى المجتمع، بحيث تختص كل فئة بوظيفة معينة تصاحب رقى الثقافة. ويجب على هذا التمايز ألا يقف عائقا بين الاتصال بين الطوائف بعضها بعضا ليكون فى ثقافة المجتمع ككل ذلك الانسجام الذى يضفى عليها الوحدة، وأن الثقافة تتوارث أى تنتقل من جيل إلى جيل. وهذا ما استقر عليه كثير من المفكرين، خاصة علماء الانثرو بولوجيا، ولكن النقد الذى يوجه إلى هذا التمايز الخاص بالطبقة الارستقراطية أنه يجعل للبلد الواحد ثقافتين: ثقافة أرستقراطية وثقافة شعبية، أى أن هذا التمايز يمنع وجود وحدة للثقافة، ولذلك يضطر إليوت إلى أن يتصور فى مجتمعه الطوبوى «صفوة» و «صفوات» إلى جانب الطبقة الارستقراطية، ثم لا يجد للطبقة الارستقراطية وظيفة إلا أن تحافظ على مستويات الآداب الاجتماعية، وتدمجها وهى عنصر حيوى فى ثقافة الفئة، أما بالنسبة لفكرة التعدد والوحدة فى الأنماط الثقافية، فهو يرى أن هناك ثقافة إنسانية تنتظم البشر جميعا وهناك ثقافة محلية تميز أهل قرية ما عن أهل القرية المجاورة لهم، وبين هذه النوعية الصغيرة، وتلك الوحدة الشاملة هناك درجات متفاوتة من الوحدة، فمنها ما يجمع الإقليم أو القطر، ومنها ما يجمع الفئات المتماثلة فى الأقطار المختلفة، وأن وجود الأنماط العامة وازدهارها هو ضرورى من أجل وجود الأنماط النوعية وازدهارها، والعكس صحيح أيضا، لأن الاتصال بين الأنماط الثقافية المختلفة يعمل على إثراء كل واحد منها، فى حين أن التراث الثقافى المشترك يزداد غنى بمساهمة الأنماط الثقافية فيه. ويحرص إليوت على بيان الوحدة الثقافية بأن تكون وحدة عضوية، وليست مجرد حاصل جمع للثقافات النوعية الداخلة فى تكوينها. ويؤمن إليوت بوجود ارتباط قوى بين الثقافة والدين، وهو يركز بشدة على هذا الارتباط حتى إنه يكاد يمحو الفرق بين الثقافة والدين، بل إنه يجعلهما مترادفين فى كثير من الأحيان. إن الأديان على اختلافها كما يرى البعض تمثل اتجاهات ثقافية ورمزية وفكرية تعكس التنوع فى التجربة الإنسانية وتحديها ومأساتها، ونحن نرى أضا أن هناك أشكالا جديدة للأصولية التى يطلق عليها البعض (الصحوة الدينية) وللبحث عن الدين عامة من الممكن اعتبارها ظواهر مختلفة الهدف، وربما رد فعل لأزمة الانتماء، وعقلا للتجاوب الثقافى والاجتماعى، ويؤثر الدين فى كثير من الأحيان على العلاقات بين الأغلبيات والأقليات، وغالبا ما يتخذ ذريعة للغزو المادى أو الإقليمى، كما يسهم الدين إذا اصطبغ بالسياسة فى زيادة حدة الصراع التى تؤدى إلى الممارسات الإرهابية أكثر من إسهامه فى بناء السلام والتقدم الثقافى. إن الآراء النظرية المتطرفة تنظر إلى الماضى أحيانا فى الخيال وتراه أكثر بساطة واستقرارا، وبالتالى فهى تمهد الأرض لمختلف أعمال العنف ولتخويف الأفراد، بل تخويف مجتمعات بأسرها فى أمور الفكر والسلوك والمعتقدات وتقهرها على قبول وجهة نظر أصولية واحدة. لمزيد من مقالات مصطفى محرم