قد ننتبه أو لا ننتبه إلى ما يحدث على كوكب الأرض من تحولات جذرية فى أفكاره وتصرفاته وعلاقاته، وقد نتصور أن مظاهرات السترات الصفراء العنيفة فى باريس أو تسللها على استحياء إلى بروكسل وامستردام وبرلين أو غيرها هى مجردة هبة من هبات كثيرة حدثت فى التاريخ الإنسانى فى لحظة غضب عارمة، وبعدها تعود الحياة إلى سابق عهدها: سلاما ومحبة وتعاونا واستقرارا، هذا التصور يشوبه كثير من القصور والهنات، أولا لأن الإنسان أصلا لم يتوقف لحظة واحدة عن النزاعات والكراهية والعنف والاضطرابات، ينتقل بها من مكان إلى مكان حسب الظروف المتاحة والبيئة المناسبة، فالصراع هو منطقه الحاكم، والتحالفات والحروب والانتهاكات والغزو بأشكاله المتنوعة هى سبيله وسلاحه إلى الثروة والنفوذ والسطوة فرديا وجماعيا. ما أقصده هو أن نمد أبصارنا ونوسع مداركنا ونقلب فى الواقع الذى أمامنا ونسأل: هل الصورة الذهنية للعالم الذى نظن أننا نعيش فيه صحيحة أم أننا نعيش فى عالم تغير فعلا وتجاوزت سرعة تغيره قدرتنا على الاستيعاب؟ نبسط المسائل قليلا: هل يمكن أن نتصور أنفسنا فى سفينة فضاء وننظر إلى سكان الكرة الأرضية ونصف أحوالهم؟، كم حربا تدور؟، كم مؤامرة تدبر يوميا؟، كم جريمة عنف يرتكبها الإنسان ضد الآخر فرديا ودوليا ؟..الخ وفى الوقت نفسه نسأل: كم حقيقة جديدة تُكتشف كل ساعة؟، كم تطورا يقع فى علوم الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات؟، كم اتصالا يجرى بين البشر يوميا؟، كم رحلة طيران؟. مؤكد يصعب إحصاء عدد الاتصالات من مكالمات تليفونية أو رسائل وتعليقات عبر شبكات التواصل الاجتماعى أو عبر البريد، ويبدو أن سكان الكوكب يكلمون بعضهم البعض يوميا، لكن عدد رحلات الطيران تقدر بأكثر من مائة ألف رحلة، حسب إحصائيات عام 2016، أى ما بين 15 مليونا إلى 20 مليون إنسان يحلقون فى الفضاء مع كل طلعة شمس، كما لو أن سكان الكوكب جميعا يلفون حوله كل 400 يوم تقريبا. نعم العالم فى حالة سيولة نسبية يسافر فيها سكانه زمنيا من حال إلى حال، حتى بات المرء الآن يعيش عدة أزمان معا، لا يحده اختراع نظام عالمى جديد تفرضه القوى العظمى على بقية دول العالم، ولا قرارات رؤساء وملوك وحكومات وياقات بيضاء ترسم وتخطط ما يجب أن يتبعوه وما يجب أن يبتعدوا عنه..فقد اختلت المفاهيم القديمة، ويمضى العالم نحو حكم العوام أو سيطرة العامة!. أى بالرغم من جيوش الدول وشرطتها ومخابراتها ونظم حكمها من برلمانات ومؤسسات، وقوانين تقيد الإنسان فى قواعد وإجراءات منضبطة فإن الطريق مفتوح على مصراعيه أمام العامة ليفرضوا وجودهم على مسرح الأحداث بقوة وعنف. وإذا تصورنا أن العنف الباريسى حول قوس النصر كان بعيدا عن هذا العالم الجديد، لهو تصور ساذج، أيا كانت النتيجة، فتجميد الرئيس الفرنسى ماكرون لقراراته الضريبية الجديدة التى رفعت أسعار الوقود الملوث للبيئة بسنتات قليلة، مجرد فصل فى رواية لا نهائية، لأن الزيادة فعليا لا تتجاوز 2٫6 % للبنزين، و5 % للديزل، تثقل أعباء صاحب سيارة البنزين بستة يوروات شهريا إذا قطع مسافة ما بين 1600 كيلومتر و2000 كيلومتر حسب السرعة ودرجة الزحام فى المرور، وترتفع فى الديزل إلى 12 يورو. والسؤال: هل هذه الزيادة تستدعى حسب وصف الصحافة العالمية: وعاث المحتجون فسادا فى أرقى الأحياء الباريسية وأحرقوا عشرات السيارات ونهبوا متاجر وحطموا نوافذ منازل فاخرة ومقاهى فى أسوأ اضطرابات بالعاصمة منذ عام 1968. وقطعا لسنا ضد أن يحتج المضارون من رفع الضريبة، وأن يتظاهروا ويصروا على إلغائها، ونتفهم أن يقطع المواطن فلوريان دو ما يقرب من 400 كيلومتر إلى باريس، من مدينة جورييه الصغيرة التى يقل عدد سكانها عن 14 ألف نسمة فى جنوبفرنسا، ليتصدر مظاهرات السبت الأسود، لأنه ، كما قال ل:أدم نوستيه مراسل نيويورك تايمز، إن راتبه لا يكفيه لمنتصف الشهر فكيف يتحمل أعباء جديدة؟! وهذه عبارة مفتاح وردت بأشكال مختلفة على ألسنة متظاهرين لا يجمعهم حزب ولا أيديولوجية ولا نقابة ولا زعيم، تشى بأن هذه الاحتجاجات العنيفة تقفز من مربع الأعباء الجديدة إلى مستوى المعيشة المنخفض فى الريف، خارج المناطق الحضارية الكبرى التى وصفها المتظاهرون بالثرية، وقالوا عن ماكرون إنه رئيس الأثرياء!. وكان هذا واحدا من أسباب رفض المتظاهرين التفاوض مع حكومة ماكرون..لأن الأهم فى رأيهم أنهم لم يكونوا طرفا فى قراره برفع الضريبة، وبما أنه تجاهلهم فهو يستحق أن يعاقب بقسوة وبعنف هو وحكومته، حتى لو تمثل العقاب فى سيارات ومتاجر ومقاه وأماكن مدمرة، فهل هناك من يضبط حركة العوام إذا ملأها الغضب العارم وعزف سيمفونية الفوضي؟. وهذا هو مأزق الليبرالية التقليدية..أنها لم تستوعب أن العالم تغير، ولم يعد بمقدور حكومة أن تستبعد العامة من أى قرار تفكر فيه أو تتخذه، مكتفية بأنها تتحرك فى حدود المؤسسات الدستورية التى تشاركها الحكم، ووفق تصوراتها فقط عن إدارة المجتمع، وهذا معناه أنها لا تدرك أن شبكات التواصل الاجتماعى وضعت العامة بالإكراه داخل مركز صناعة القرار، فإذا لم يرهم صاحب القرار أو توهم قدرته على تجاوزهم وإهمالهم، فقد ارتكب خطأ فادحا!. والأخطر هى تكشف عن خلل رهيب فى أداء الرأسمالية العالمية، أداء نتج عنه شعور الناس العميق بالظلم الاجتماعي، فالتفاوت واسع بين تضخم رأس المال وفحش غنى الاثرياء ورجال الأعمال ومدراء الشركات الكبري، وبقية سكان الكوكب خاصة فى نظم عمل الطبقة الوسطى والطبقات العاملة ومعاشات المتقاعدين. وهو ما قد يفسر لنا الأسباب الكامنة فى العنف الباريسى وعنف ليون قبل شهر، وليون من أغنى المدن الفرنسية، ناهيك عن حركات الاحتجاجات الكبرى فى إيطاليا وإسبانيا وأمريكا، وسبقهم جميعا العالم العربي. نعم نحن فى عصر ديمقراطية العوام سواء كانت جيدة أو رديئة، رائعة أو خبيثة، وسواء رضى بها الحكام أو رفضوها..عصر يلزمه بالضرورة قواعد اقتصادية جديدة أكثر عدالة اجتماعية للوقاية من الغضب العام. فالعالم كله بلا أسرار ويتواصل سكانه معا كل لحظة!. لمزيد من مقالات نبيل عمر