أهدى كتبه إلى من حاولوا اغتياله وكتب: «إلى من يخالفنى الرأى أهدى سطورًا كتبتها لمصلحة مجتمع لن ينصلح حاله إلا بالثقافة»
لم تعرف الحياة الثقافية العربية، يوما أكثر سوادا من لحظة انخلعت فيها قلوب المحبين على أعظم أدباء مصر «نجيب محفوظ»، عندما جاء يوم 14 أكتوبر من منتصف التسعينيات، بصدمة كبيرة لكل عشاق الأدب فى العالم، صباح هذا اليوم حاولت أياد آثمة من الجماعات التكفيرية أن تغتال العربى الوحيد المتوج بنوبل للآداب عبر التاريخ، يومها كان ينتظر «محفوظ» على باب منزله بالعجوزة، صديقه الأديب فتحى هاشم، الذى كان يصطحبه متطوعًا كل يوم. ............................... خرج «محفوظ» لركوب السيارة، و استدار فتحى هاشم لكى يتولى مقعد القيادة، قبل أن يسمع صرخة عالية من محفوظ، امتده يد آثمة لشاب جاهل، بالسكين فى رقبة صاحب نوبل، وكانت عناية الله أن تكون مستشفى الشرطة بالعجوزة قريبة، حيث تم إسعاف محفوظ، وإنقاذ حياته، إلا أن الحادث ترك بأثره على حياة ابن الجمالية لسنوات بعدها. «الأهرام» إلتقت مع المستشار والروائى أشرف العشماوى، الذى كان قاضيا للتحقيقات وقتها، وحكى لنا عن ذكرياته مع اليوم العصيب، قال العشماوي: عندما خطوت أولى خطواتى إلى داخل غرفة محفوظ بمستشفى الشرطة، شعرت على الفور بأننى أمام شخص مختلف، كان يبتسم بوهن وقد اعتدل برقدته مرحباً بى بمودة، عرّفت الأستاذ بنفسى ووظيفتى وسبب وجودى، فلمحت ضيقاً كطيف عابر على ملامحه، سرعان ما طرده بلطف وهو يقول بعفوية: «أنا الحقيقة معرفش اللى ضربنى لكن أنا مسامحه على كل حال ومعنديش حاجة أضيفها!». يضيف العشماوي: وقت الجريمة لم أكن أعرف بعد أبعاد وملابسات الحادث، وبالتالى لم يدر بخلدى على الإطلاق أننى سأكون أحد محققيه الذى سيسمع أقواله باعتباره المجنى عليه، فلم تكن رواية أولاد حارتنا حديثة الصدور حتى نضعها على قائمة الدوافع لارتكاب الجريمة، فغرقت فى حيرة مع زملائى بالنيابة حتى ظن بعضنا أن مرتكب الحادث شخص مخبول ممن يهوون الشهرة على الطريقة الأمريكية، يوم لقائى معه، كان قد مر على محاولة الاغتيال بضعة أسابيع، ظللت أتحدث معه فى أمور عادية، وبدا لى أنه مسرور لعدم استجوابه، كان يكفى أن ألقى سؤالاً بسيطاً أو أفتح موضوعاً عاماً ليفضفض بتلقائية، تركت له المساحة ليتكلم وحده، فنحن فى حضرة الأستاذ، وكان مجمل حديثه يدور حول قلقه على حال مجتمع ينزلق نحو هاوية التخلف والرجعية، طال الحديث وتشعب، فى النهاية كان لابد من إجراء التحقيق وسماع أقواله لكن وقتها أخبرنى الطبيب أن بقائى أكثر من ساعة معه يرهقه، فغادرت كما أتيت بأوراق بيضاء لم أدوّن فيها حرفاً. عدت لمكتبى وأجّلت التحقيق لبعد باكر، وفى اليوم المحدد ذهبت بصحبة محقق وزميل أخر، كنت قررت ألا أسأله بنفسى وطلبت ذلك من رؤسائى، تولى زميلى رئيس النيابة مهمة سؤال محفوظ عن متهمين لم يرهم الأستاذ ولا يعرفهم ولا حتى يريد تذكر ملابسات الحادث برمته، و تفرغت أنا لمراقبته وتأمل تعبيرات وجهه، ما بين التأثر والانفعال والحزن والمرارة وعمق النظرة والقراءة لحادث رأى أنه بداية لإرهاب قادم لا نهاية قريبة له إذا ما خفتت شمس التنوير وقد كان، قبل انصرافنا ظن نجيب محفوظ أننى رئيس المحققين مع أننى كنت أصغرهم، ويبدو أن الأمر قد اختلط عليه، فسألنى باهتمام: همّ ليه ضربونى يا حضرة الوكيل؟. كنت على يقين من أنه يعرف اجابة سؤاله وأن الأدباء والأصدقاء الذين التفوا حوله منذ اليوم الأول قد أخبروه بكل التفاصيل، حتى زميلى قالها له فى التحقيقات ووقتها رفض الأستاذ بشدة أن تقرأ روايته من منظور دينى، لكننى لمحت بريقاً غريباً فى عينيه كمن يريد أن يسمع أمراً مختلفاً أو لا يريد أن يصدق كل ما قيل له، أجبته بما اعتقدت انه سيريحه وقلت بأن من حاول قتله فعل ذلك لإصلاح المجتمع. فسألنى بنفس الاهتمام: وما وجهة نظره فى ذلك؟ قلت بتحفظ: لأنهم يرون أن المجتمع لن ينصلح حاله إلا بقتل الكفار، أجبته واعتذرت مقرراً أن تلك العبارة وردت بأقوال المتهم الذى كنت أستجوبه، فابتسم لى بمودة طالباً ألا أعتذر ثم فاجأنى سائلاً: أنا أعلم أنهم لم يقرأوا الرواية لكن أريد معرفة ما إذا كانوا قد قرأوا غيرها. أسقط فى يدى فأنا أخفيت عنه أنهم لا يعرفون القراءة حتى لا أزيده آلما لرقة مشاعره، فأجبته بأننى غير متذكر، لم ييأس نجيب محفوظ واستأذن منا أن نسمح له بإهداء المتهمين بعض كتبه، وفسر دهشتنا من رد فعله على أنها موافقة منا، وطلب من زوجته إحضار ثلاث روايات من منزله الملاصق للمستشفى، أحدها كانت بداية ونهاية والثانية اللص والكلاب ولا أتذكر الثالث، ويومها أملى الأستاذ الإهداء ولم يستطع الامساك بالقلم ليوقع، فكتب ووقع الناقد رجاء النقاش الذى تصادف وجوده بدلا منه، فى نهاية إلقاء صافحنى بحرارة قائلا بجدية: لابد وأن أحدهم يقرأ..! أومأت بالإيجاب.! عدت لمكتبى وقرأت الإهداء،شعرت بعظمة الرجل وازداد انبهارى به ووجدت أن من واجبى تحريز الروايات المهداة على ذمة القضية لتكون تحت بصر القاضى الذى سينظر القضية بالمحكمة لتشكل وجدانه، ويرى بوضوح الفرق بين العالم والجاهل، بين الأديب المبدع المتسامح والهمجى صاحب الأفكار الرجعية المتخلفة، بين من يريد إعادتنا قرونًا للوراء ومن يريد إصلاحاً حقيقياً، يومها أملى أستاذنا الكبير على رجاء النقاش جملة الإهداء حسبما دونت بأوراقى الخاصة: «إلى من يخالفنى الرأى أهدى سطورًا كتبتها لمصلحة مجتمع لن ينصلح حاله إلا بالثقافة».