أكتب لكم من باريس التى تستعد لتستقبل عاما ثقافيا يتسم بالخصب والتنوع، ويتسع لتمثيل الثقافات الأخرى خاصة ثقافات أوروبا فى الماضى والحاضر، ففيه شكسبير، وسرفانتس، وفيردي. وفيه أفلام من أمريكا، وفيلم لبنانى سارعت لمشاهدته حين قرأت أن البطولة فيه لصبى فى الثانية عشرة من عمره يلعب فى الفيلم ما يعيشه فى الحياة، ويرفع دعوى ضد أهله تنظرها المحكمة بتهمة أنهم أنجبوه! عمل مدهش هذا الفيلم الذى أحدثكم عنه! لأنه نقيض ما هو سائد فى السينما العربية، بل هو، حسب ما رأيت، الواقع المسكوت عنه فى الثقافة العربية الحديثة كلها. الثقافة العربية الحديثة لا تقدم من الواقع إلا ما تراه مسموحا به، وهو فى غالب الأحيان العالم الذى يعيش فيه الكتاب والشعراء والفنانون العرب، عالم الطبقة الوسطي، فإن تجاوزته إلى غيره فتحدثت عن الفقراء أو عن الأغنياء تحدثت عنهم من وجهة نظر المثقف الذى ينتمى للطبقة الوسطى التى تعتبر نفسها حارسة للقديم ومصدرا للجديد، لكن دائما من موقفها الوسطى الذى تسيطر عليه الجهات الرسمية والدينية. ونحن نسمع ونقرأ كل يوم هذه العبارة باعتبارها تلخيصا وتعبيرا عن الحكمة والتعقل. لكن هذا الفيلم لا يقدم من الواقع إلا ما هو مستبعد منه وغير مسموح به إلى الحد الذى يظن الكثيرون أنه غير موجود، مع أنه يحتل فى الواقع رقعة واسعة، لكنها رقعة منفية ومطرودة، وهى إذن غير موجودة، لأنها غير شرعية، ولهذا يلجأ لها الفقراء والمهمشون من أهل البلاد، كما يلجأ لها الأجانب الذين يدخلون لبنان متسللين لا يحملون أوراقا رسمية تسمح لهم بالإقامة الشرعية. وفى هذه الرقعة من المجتمع اللبنانى تدور أحداث فيلم «كفر ناحوم» كل شىء فى هذا الفيلم يجسد هذا العالم المنبوذ. الأحداث تدور فى العشوائيات المحيطة بكفر ناحوم التى يسكنها الفقراء بكل مستوياتهم. المعدمون الذين لا يملكون أى شىء، والفقراء الذين لا يملكون إلا القليل. والضعفاء الذين يجدون فى أنفسهم بعض القوة فيعذبون الأكثر ضعفا. الآباء الذين لا عمل لهم فى الحياة إلا أن ينجبوا أطفالا يكتفون بوضعهم أجنة فى بطون أمهاتهم ويتركونهم بعد ذلك لمستقبل محتوم يعانون فيه البؤس والحرمان، ويحشرون فى غرف مظلمة ينامون بعضهم فوق بعض على أرضها الرطبة القاحلة، ويساقون فى الصباح ليشتغلوا خدما وحمالين أو ليظلوا عاطلين لا عمل ولا مدرسة ولا تربية ولا مستقبل إلا هذا الواقع الذى يتكرر كل يوم. والتجار الذين يستغلون حاجة هؤلاء ليملوا عليهم شروطهم ويشتروا بناتهم وهن فى الحادية عشرة من أعمارهن بعقود زواج مزورة. والمهربون الذين يستخدمون الأطفال فى تهريب المواد المخدرة. عالم من الفوضى والعنف والقبح والفظاظة والسوقية ضحاياه كثيرون، لكن ما يعانيه الأطفال فيه أكثر وأشد وأعنف مما يعانيه غيرهم، وهذا بالضبط ما يكشف لنا عنه هذا الفيلم. ومع أنه تصوير للواقع فهو يصور هذا الواقع بجرأة ويقدمه على نحو مثير لا يتاح إلا لفنان قدير، وهو شرط تحقق فى مخرجة الفيلم نادين لبكى التى تخصصت فى تقديم ما لم تقدمه السينما العربية من قبل، كما فعلت فى فيلمها الأول الذى صورت فيه حياة النساء من خلال صالون لتصفيف الشعر ينتهزن فيه فرصة اجتماعهن لتتحدث كل منهن عن حياتها. بعد ذلك قدمت نادين لبكى فيلما ثانيا. و«كفر ناحوم» هو فيلمها الثالث الذى تواصل فيه عرضها لحياة المضطهدين وعالمهم، والذى يعرض الآن فى باريس بعد أن حصل فى مهرجان كان على جائزة لجنة التحكيم، وبعد أن اختير ليمثل لبنان فى الأوسكار القادم. والفيلم عبارة عن محاكمة يقف فيها الصبى زين متهما بمحاولة قتل زوج أخته سحر، وهو بقال متواضع استغل القليل الذى يملكه لشراء جسد هذه الطفلة التى لم تكن تجاوزت الحادية عشرة من عمرها، وكانت أقرب إخوة زين إليه ولهذا لم يطق هذا الوضع وترك البيت ليتشرد فى كفر ناحوم يسير على غير هدى فى الشوارع التى يخترقها الأطفال الموسرون بملابسهم النظيفة وسياراتهم الخاصة. ويصادف فى تشرده فتاة إرتيرية كانت فى وضع يشبه وضع أخته. مهاجرة دون أوراق. عملت خادمة فى أسرة لبنانية تملك بيتا وسيارة وتستأجر سائقا استطاع أن يخدع الخادمة الإرتيرية فتحمل وتطرد من عملها وتتشرد هى الأخرى وتضع طفلها يونس الذى سيأتنس به زين ويرعاه كأنه شقيقه الأصغر. لكن الشرطة تقبض على الأم الإرتيرية راحيل التى لم تكن تحمل ما يؤهلها للإقامة فى لبنان،.. ويحاول زين مع شدة عوزه أن يحل محلها فى رعاية طفلها. ثم يصل إلى علمه أن أخته ماتت وهى تضع حملها الأول فيسرع إلى بيت أهله لينتزع سكينا ويركض به إلى بيت البقال زوج أخته ويطعنه به طعنة لم تكن قاتلة فتقبض عليه الشرطة ويقدم للمحاكمة التى بدأ بها الفيلم وانتقل من خلالها إلى ما سبقها. بطريقة الفلاش باك ليقدم لنا الأحداث التى ساقت زين إلى المحاكمة التى تحول فيها من متهم إلى ضحية وصاحب قضية يمثل هؤلاء الأطفال التعساء ويرفع باسمهم دعواه ضد أهاليهم الذين أنجبوهم لما صاروا إليه وكأنه يترجم العبارة السائرة «هذا جناه أبى علىَّ وما جنيت على أحد!» وأظن أن هذا المعنى وهو تمثيل الطفل زين لأمثاله من الأطفال الفقراء هو الذى قصدته صحيفة «النهار» اللبنانية التى قالت عن الفيلم إن «كفر ناحوم» مجاز أو استعارة فنية تعبر عن عنف الواقع. أما صحيفة «لوموند» فقد عبرت عن الصدق الذى يحسه المشاهد وعن الإقناع الذى يتحول به الفيلم من عمل فنى يصور الواقع إلى واقع أو تسجيل للواقع. وترى «لوموند» أن «كفر ناحوم» يذكرنا برواية فيكتور هيجو «البؤساء»، وأن ما فعله زين مع ابن الفتاة الآرتيرية يذكرنا بما فعله جفروش فى «البؤساء» مع أطفال لا يقل عنهم فقرا. وأنا أقول إن المجاز الذى تحدثت عنه «النهار» يجعل الفيلم تعبيرا عن البؤساء فى العالم كله وليس فى «كفر ناحوم» وحدها. تحية لمن قدموا لنا هذا الفيلم المدهش، وأولهم نادين لبكي! لمزيد من مقالات ◀ بقلم أحمد عبدالمعطى حجازى