«نحن نقدرك تقديرا خاصا معجبون بكل العطاء الذى قدمته ألمانيا للعالم خلال فترة قيادتك .. واسمحى لى أن أهنئك وأهنئ الشعب الألمانى على كل ما قدمتيه .. ونحن فى مصر ننظر بكل التقدير والاحترام لكل ما فعلتيه من أجل اللاجئين وتوفير فرص لهم عمل هنا فى ألمانيا». هذه الكلمات التى خرج بها الرئيس عبد الفتاح السيسى عن نص الكلمة المكتوبة التى ألقاها خلال المؤتمر الصحفى الذى عقده مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عقب القمة التى جمعتهما الأسبوع الماضى عكست بوضوح مدى التأثير الذى أحدثه قرارها بالتنحى عن رئاسة أكبر الأحزاب الألمانية وعدم ترشحها مرة أخرى لرئاسة الحكومة واعتزالها الحياة السياسية نهائيا بحلول عام 2021. وجاء هذا القرار صادما ومباغتا ليس لحزبها الديمقراطى المسيحى أو لحكوماتها الائتلافية فقط بل لكل دول العالم وخاصة دول أوروبا التى ترى فيها المرأة القوية التى جعلت منهم قوى سياسية واقتصادية مؤثرة فى الأحداث العالمية. حالة الارتباك التى تعيشها الآن جميع الأوساط السياسية فى ألمانيا تؤكد بما لا يدع مجالا لأى تكهنات أن المستشارة الألمانية اتخذت هذا القرار الجريء دون استشارة أى من المقربين لها ولا حتى من حزب الاتحاد الديمقراطى المسيحى الذى تترأسه، ويؤكد أيضا أنه جاء بإرادة حرة منها وإحساس بالمسئولية تجاه هذا الحزب الذى فقد الكثير من شعبيته خلال السنوات الماضية. وعلى الرغم من أن قرارها هذا جاء عقب إعلان نتائج انتخابات ولاية هيسن التى جرت يوم 28 أكتوبر الماضى وخسر فيها حزب ميركل 11% من الأصوات، فإن تلك الخسارة لم تكن بأى حال من الأحوال السبب الحقيقى وراء قرارها، لأن حزبها ورغم هذه الخسارة مازال يحتفظ بالأغلبية داخل هذه الولاية. ولكن ما نستطيع قوله هنا أن خسارة هذه النسبة فى عدد الأصوات الانتخابية لولاية هيسن ما هى إلا منحدر جديد تنزلق عليه شعبية حزب المستشارة إلى حد ينذر بالخطر الشديد وهو ما جعلها تقبل على هذه الخطوة قبيل مطالبة حزبها لها بالتنحى لوقف نزيف الخسائر المتتالية فى عدد الأصوات المؤيدة لأكبر الأحزاب الألمانية. ولعل هذا أيضا ما أفصحت عنه ميركل فى تصريحاتها الأسبوع الماضى حيث قالت إن الحزب ربما تحمل إخفاق الحكومة فى بعض الملفات، مؤكدة أنها سوف تتنحى عن رئاسته نهاية هذا الشهر ولكنها طالبت بالاستمرار على كرسى المستشارية حتى انتهاء فترة ولايتها عام 2021. وكانت سياسة الباب المفتوح التى انتهجتها المستشارة الألمانية تجاه اللاجئين هى كلمة السر وراء تراجع شعبيتها وخسارة حزبها لكثير من الأصوات سواء فى الانتخابات العامة التى أدت إلى عجزها عن تشكيل الحكومة فلجأت إلى حكومة ائتلافية، أو فى الانتخابات المحلية التى تجرى الآن، وكان آخرها انتخابات ولاية هيسن والتى دفعتها للاستقالة. ولكن المشكلة الرئيسية هنا من وجهة نظر المراقبين أن جميع الأصوات التى خرجت من عباءة حزب المستشارة انضمت إلى حزب البديل الشعبوى المتطرف الذى يناهض بشدة وجود لاجئين داخل ألمانيا، وتمكن لأول مرة فى تاريخة من الفوز بمقاعد فى البرلمان مما سبب صدمة مدوية لجميع الأحزاب الألمانية الأخرى التى بدأت بالفعل تراجع سياستها الخاصة بتأييد حزب الاتحاد المسيحى الذى تترأسه ميركل، وذلك بالطبع خوفا من خسارتها لبعض الأصوات. ولعل هذا ما حدث بالفعل، حيث خسر الحزب البافارى الشريك الرئيسى لميركل فى الحكومة والذى يعتبر أكبر مؤيديها لكثير من الأصوات فى انتخابات الولايات البافارية وحصل على 37,2% من الأصوات، وهى أسوأ نتيجة له منذ نحو 60 عاما، ومنذ ذلك الحين بدأت الضغوط تتزايد على ميركل بشكل غير مسبوق. ويؤكد المراقبون أيضا أنه على الرغم من أن ميركل حققت نجاحات كبيرة خلال وجودها على كرسى المستشارية لمدة 13 عاما خاصة على المستوى الاقتصادى والسياسة الخارجية، فإن سياسة «الباب المفتوح» أمام اللاجئين بداية من عام 2015 أدت إلى تذمر الناخبين الألمان، خصوصا مع وقوع هجمات إرهابية وجرائم جنائية نفذها لاجئون، وكانت النتيجة صعود اليمين الشعبوى الذى استغل تذمر قطاع عريض من الألمان من سياسة اللجوء ليحقق النجاح فى ولايات الشرق ويدخل البرلمان الألمانى فى انتخابات سبتمبر 2017، وفى عام 2018 بدأ الحزب ينجح فى دخول جميع برلمانات الولايات التى أجريت فيها انتخابات وبنسب مرتفعة، وبالطبع ألقت جميع الأحزاب الأخرى باللوم على ميركل وبأنها السبب فى تغيير بوصلة الناخبين. ومنذ أن أعلنت تحملها المسئولية بشجاعة وقدمت استقالتها من رئاسة الحزب مع البقاء على رأس الحكومة حتى انتهاء فترتها عام 2021، بدأت بعض الأحزاب تطالبها بالاستقالة والتنحى من الآن عن رئاسة الحكومة، وهنا توقع وزير الخارجية الألمانى السابق زيجمار جابريل استقالة ميركل من منصبها كمستشارة وانهيار الائتلاف الحكومى فى موعد أقصاه مايو القادم، وكتب مقالا مطولا فى صحيفة «دى تسايت» الألمانية توقع فيها أن تأتى استقالة ميركل عقب انتخابات برلمان أوروبا فى مايو، مضيفا أنها تعلم جيدا ما تدين به لحزبها. كما شككت صحيفة «هاندلسبلات» فى بقاء ميركل مستشارة حتى 2021، وكتبت تحت عنوان «انتهى زمن ميركل» أن المستشارة تبحث الآن عن خروج مشرف من المشهد السياسى برمته وأن هناك شكا فى أن تستمر حتى عام 2021. ويرى بعض المراقبين أن انسحاب ميركل السياسى ما هو إلا جزء من الانهيار السياسى لجميع الأحزاب الألمانية، وأنه كان عليها أن تنسحب قبل انتخابات عام 2017 عندما بدأت المؤشرات تعكس حالة الرفض لسياستها تجاه اللاجئين. أما صحيفة «بيلد» الشعبية فقد سلطت الضوء على النجاحات الانتخابية لحزب البديل من أجل ألمانيا الشعبوى، وكتبت فى هذا الإطار عن ميركل تقول إن المستشارة ميركل لم تعد تلك الشخصية التى بإمكانها إصلاح ما أفسدته من انتقال نسبة كبيرة من أصوات الناخبين إلى الأحزاب المتطرفة التى لجأ إليها الناخب كإجراء عقابى لسياستها تجاه اللاجئين. وخلال الأيام الماضية بدأت بالفعل بوادر انشقاق داخل الحكومة الائتلافية عقب خسائر انتخابات ولاية هيسن، حيث خرجت نائبة الحزب الاشتراكى الديمقراطى الشريك الثالث فى الحكومة لتقول إنه يجب أن نعيد حساباتنا مرة أخرى تجاه مشاركتنا فى هذا الائتلاف.. إذن، يبدو أن استقالة المستشارة الألمانية فتحت الباب أمام صراعات مكتومة داخل الحكومة والأحزاب المشاركة فيها، حيث بدأ الجميع يقفز من المركب مدعيا رفضه بعض القرارات الخاصة باللاجئين. وفى الحقيقة، فإن هذا التنصل دافعه الخوف الشديد من سقوط هذه الأحزاب فى بئر السياسة وصعود حزب البديل إلى قمة البرلمان. هى شهور قليلة وربما أيام وسوف تتضح الصورة تماما وسنرى هل ستنسحب الأحزاب المشاركة فى الحكومة لتضطر ميركل لتقديم استقالتها واختيار مستشار جديد، أم سيتحمل الجميع حتى نهاية فترة ولاياتها تجنبا لانتخابات مبكرة تدخل البلاد فى دوامة أخرى من الصراعات السياسية.