كتبت:رحاب إبراهيم كانت أول مرة أقابل فيها بنتا كهذه, طموحا كفرس السبق, تلف شعرها بوشاح عروبتها بينما تمسك بين إصبعيها ببطاقة هويتها الأمريكية ككارت احتياط يمنحها احتمالات لحياة مختلفة. ولدت في الState كان أبي مبتعثا للدراسة, وأنا قدمت للبعثة هذا العام أسألها: وهل سيسمحون لك بالسفر وحدك؟ أخي وابن خالتي قدما كذلك, ما زالت أوراقهما متعثرة لأنهما إرهابيان- تضحك, أما أنا فهويتي المزدوجة تشفع لي, علي الأقل حتي الآن. رافقتني فاطمة لمدة سنتين في سكن المستشفي الذي عملنا فيه معا, كانت تقيم معي من السبت للأربعاء, وترحل في عطلة نهاية الأسبوع إلي بلدتها التي تبعد ثلاث ساعات بالسيارة عن المدينة الخليجية الساحلية الصغيرة التي نعمل فيها, كانت غربتها أقل كثيرا من غربتي, وكانت دوما تقدر ذلك.. لا أدري هل لم تكن تتقن فن الشكوي كالكثيرات, أم كان لاغترابها أثناء دراستها الجامعية في العاصمة دور في ذلك. أم وهو ما أرجح ذ. الأسبوعي محملتين بالأكياس والكراتين, عندما همست فجأة: أنا أحب كادت كرتونة الطقم الصيني تنزلق من يدي وأنا ألتفت إليها في دهشة, شككت أني لم أسمع فعلا, أكيد قالت كلمة أخري هه ؟ أحب.. أنا أحب من ؟ ابن خالتي.. سأعرفك عليه يوما أطلت النظر في الكرتونة التي أرص فيها الأشياء استعدادا للشحن. وهل يدرون؟ أمي تعلم.. وأبي.. سوف يعلم. هذه البنت تعبر الحواجز ببساطة مهرة. ساعدتني في إحكام الشريط اللاصق علي الكرتونة, وكتابة العنوان بخط كبير. بقي علي انتهاء تعاقدي هنا6 أشهر, أعود بعدها لإتمام زواجي أخيرا وبعد طول انتظار.. ينبغي أن أكمل ما نقص من الجهاز في الشهور القليلة الباقية, ساعدتني فاطمة كثيرا في انتقاء الماركات وأيضا في الفصال مع الباعة الآسيويين الذين يتظاهرون بعدم فهم كل ما لا يريدون سماعه! كنا في مطبخ السكن نقلب قطع الدجاج في السمن عندما داهمتنا رائحة السمك المتبل ببهارات تقلب لي معدتي, قلبت شفتي بامتعاض هؤلاء الفليبينيات سيقتلنني يوما.. أشرت إلي حجرتهن المواجهة للمطبخ واللائي وضعن فيها موقدا كهربيا لتداهمنا رائحة طبيخهن صباحا أو مساء دون سابق إنذار. توقعت من فاطمة مشاركتي الاستياء, إلا أنها اكتفت بهزة صغيرة من كتفيها وظلت صامتة تقلب الأكل. اغتظت منها: المشكلة أنهن يتقن اللغة العربية فيفهمن كل ما نقول ونحن أمامهن نصبح مثل الأطرش في الزفة.. رفعت فاطمة رأسها عن الطعام, وسرحت ببصرها حتي ظننت أنها تري ما لا أراه, وأخيرا همست: يكفي أنهن مغتربات.. الإمام الحسين كان مغتربا في كربلاء. تذكرت حسينا السائق الذي أقلني من المطار فور وصولي, وكم كان بشوشا دمثا, أعطاني جواله لأهاتف أبي لطمأنته, وأجاب عن سيل تساؤلاتي بصبر وهدوء, أطلق بعض النكات الخفيفة ليمتص كثيرا من توتري وتوجسي, وصار بعدها هو النجدة بالنسبة لي عندما ينفد الخبز فجأة, أو أحتاج لبطاقة هاتف في وقت متأخر. حين التقي فاطمة وعرف أنها قضت سنوات دراستها الجامعية في العاصمة قال لها إنه عمل هناك لمدة شهرين, كان مدير الشركة يفضل أن يقابل الشيطان علي أن يقابله.. حين سمع همسا من بعض زملائه عن أن عشيرته لهم ذنب رحل بهدوء.. نظر إلي ساخرا: عمرك شفت لي ذنب؟ *** الحياة حلوة.. كان شعار فاطمة أمام المضايقات التي تواجهها أحيانا, سواء بسبب كونها أنثي مغتربة, أو بسبب ضغط العمل, أو بسبب مذهبها الديني.. كانت مقتنعة بالفعل أن جمال الحياة وقوتها أكبر من أي منغصات, وأن أشياء بسيطة تستطيع أن تخفف كثيرا من حدتها. *** - أف.. عمل وقت المغرب, وفي أول يوم رمضان - ولا يهمك.. الحياة حلوة - جدا! - زكي عن صحتك - يا بنتي الناس عندكم لا ينامون, ولا يأكلون ولا يشربون, ولا حتي يتناكحون.. كل ما يفعلونه هو أن يأتوا إلي هذا المستشفي لنيل البركة أخبط الباب ورائي بعنف, وتصل أصداء ضحكتها لأذني حتي درجات السلم الأخيرة.. وقت الأذان, هدأ الوضع قليلا, سمعت صوتها وخطواتها تقترب من الباب, لم يفاجئني قدومها فقد كنت أتوقعه, لكنها كانت قد جهزت مفاجأة أخري.. - ميرزا.. ابن خالتي - أهلا ميرزا.. حمدا لله علي السلامة يضحكان من طريقتي في نطق الاسم الغريب علي, وتقلدني هي فأخبطها علي كتفها - تفضلي.. الشاب جاء ثلاث ساعات سفر وهو صائم لأنه صعب عليه ألا أفطر من أكل البيت أول يوم ناولتني طبقا تفوح منه رائحة شهية للغاية - ما هذا؟ - صالونة.. اسمها صالونة - صالونة واللا سفرة.. هاتي إياك أن تأكلي معهم, يضعون قطرات من البول في طعامهم.. آه والله.. نفضت التحذيرات التي جهزوني بها قبل قدومي ووضعت الطبق علي المكتب, نزعت الورق المعدني المغلف به سريعا وصحت بهما وأنا أجلس - ياللا.. تعالا - لا لا.. كلي إنتي.. لسه شوية نظرت للساعة المعلقة علي الحائط, مرت ثلاث دقائق بعد المغرب - خلاص.. أشرت للساعة وأنا أؤكد قولي بالنظر للتقويم الموضوع علي المكتب والمبين به مواقيت الصلاة.. أحسست في عينيهما بشيء من الارتباك.. همست لسه شوية.. نحن غير كانت المرة الأولي التي تتكلم فيها عن نفسها بقولها: نحن لم أستطع منع دهشتي وأنا أنظر إليها, ولم أستطع كذلك أن أنطق بكلمة واحدة.. لم أفهم كيف تكون هي نحن وأنا أنتم ونحن علي دين واحد. حاجز غير مرئي قام فجأة بيننا.. حاجز كنا نعرف بوجوده ونتجاهله ونتحاشاه.. كنت أعرف أننا لو تناقشنا سنختلف في أمور جوهرية ولكني كنت دائما علي يقين أننا ندفع ثمن شيء ليس لنا يد فيه.. عندما كنا نشاهد في التلفاز أخبار انفجارات في العراق أو إيران كنا نتفق بلا كلام أن الكبار يورطون الأبرياء في صراعات من أجل تقوية سلطتهم هم. حاولت بعدها كما حاولت هي تجاهل هذا الموقف, لكن شيئا خفيا من التحفظ كان قد قام بيننا. الذي أخرجنا من هذه الحالة كان قدومها من إجازتها الأسبوعية بوجه مشرق, تتحرك بخفة كما لو كان قد نبت لها جناحان في هذين اليومين, أخبرتني بمنتهي الحماسة والترقب أن طلب البعثة تمت الموافقه عليه لثلاثتهم, هي وأخيها وابن خالتها, وأنهم قد ذهبوا لمقر السفارة وأجروا المقابلات وأنهوا الأوراق اللازمة, وأن السفر سيكون في خلال شهر واحد, أمسكت بيديها وأخذنا نقفز ونحن نطلق صرخات فرحة, ثم جررتها للمطبخ.. لا بد أن نحتفل تعالي بدأنا في تجهيز الكعكة وقبل أن نقرر كيف سنزينها داهمتنا رائحة السمك من الغرفة المقابلة, وضعنا كفوفنا علي وجهينا ونحن نكتم أنفاسنا وضحكاتنا وجرينا إلي غرفتنا سنشتري جاهزا أحسن وزعت الكعك علي كل العاملين بالمكان وتلقت التهاني بفرحة وترقب.. بدت عيناها وكأنهما لم تعودا تنتميان للمكان ولا لها.. بدتا محلقتين بعيدا ولم يكن أحد بقادر علي الإمساك بهما ولا حتي أنا. حكت لي كيف نزعت غطاء وجهها داخل مبني السفارة واستمرت كذلك حتي ركبت القطار في طريق العودة.نظر إليها أخوها موبخا فصاحت فيه هافطس! كشاب يستعد لإثبات أنه ليس متعصبا أزاح وجهه بعيدا وسكت علي مضض, بينما هز ابن خالتها كتفه قائلا: عادي مرت الأيام التالية بسرعة البرق, أصابتنا حمي الشراء, هي استعدادا للسفر وأنا لأنهي ما تبقي من جهازي قبل أن ترحل. حين ودعتها للمرة الأخيرة كنت أعزي نفسي أنه لم يتبق علي نهاية تعاقدي سوي شهرين, رغم أني لم أستطع تصورهما بدونها. لما عدت أخيرا لبيت عائلتي وجدت الكراتين التي شحنتها كما هي مرصوصة في غرفة الصالون, كانت أمي تعلم أني أفضل ترتيب أشيائي بنفسي, فككتها علي مهل, دمعت عيناي وأنا أري خط فاطمة الأنيق يزين العناوين. طلبت من زوجي إرسال صور الزفاف لها, ردت علي ببطاقة سياحية أنيقة, كتبت باختصار علي ظهرها: بعد ألف مبروك, وضعونا في بلدة نائية, كلها طلاب مغتربون, البلدة تنام من التاسعة, تماما كبلدتنا, أقضي معظم الوقت في المكتبة, أتمني أن يمر العام علي خير.