وانج يي ل بلينكن: على أمريكا عدم التدخل في شؤون الصين الداخلية وعدم تجاوز الخطوط الحمراء    توقعات مخيبة للأمال لشركة إنتل في البورصة الأمريكية    اليوم.. الأوقاف تفتتح 17 مسجداً جديداً    مسؤول أمريكي: واشنطن تستعد لإعلان عقود أسلحة بقيمة 6 مليارات دولار لأوكرانيا    قوات الاحتلال تعتقل شقيقين فلسطينيين بعد اقتحام منزلهما في المنطقة الجنوبية بالخليل    وزير الخارجية الصيني يلتقي بلينكن في العاصمة بكين    بداية موجة شتوية، درجات الحرارة اليوم الجمعة 26 - 4 - 2024 في مصر    الأسعار كلها ارتفعت إلا المخدرات.. أستاذ سموم يحذر من مخدر الأيس: يدمر 10 أسر    أعضاء من مجلس الشيوخ صوتوا لحظر «تيك توك» ولديهم حسابات عليه    إسرائيل تدرس اتفاقا محدودا بشأن المحتجزين مقابل عودة الفلسطينيين لشمال غزة    جامعة جنوب كاليفورنيا تلغي حفل التخرج بعد احتجاجات مناهضة للحرب على غزة    900 مليون جنيه|الداخلية تكشف أضخم عملية غسيل أموال في البلاد.. التفاصيل    طريقة تغيير الساعة في هواتف سامسونج مع بدء التوقيت الصيفي.. 5 خطوات مهمة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    شعبة أسماك بورسعيد: المقاطعة ظلمت البائع الغلبان.. وأصحاب المزارع يبيعون إنتاجهم لمحافظات أخرى    المستهدف أعضاء بريكس، فريق ترامب يدرس إجراءات ضد الدول التي تتخلى عن الدولار    «جريمة عابرة للحدود».. نص تحقيقات النيابة مع المتهم بقتل طفل شبرا الخيمة    ماجد المصري عن مشاركته في احتفالية عيد تحرير سيناء: من أجمل لحظات عمري    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. توجيهات الصحة بتجنُّب زيادة استهلالك الكافيين    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    أحمد سليمان يزف بشرى سارة لجماهير الزمالك    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    رئيس لجنة الخطة بالبرلمان: الموازنة الجديدة لمصر تُدعم مسار التنمية ومؤشرات إيجابية لإدارة الدين    نجم الأهلي السابق يوجه رسالة دعم للفريق قبل مواجهة مازيمبي    ناقد رياضي: الزمالك فرط في الفوز على دريمز الغاني    طارق السيد: ملف بوطيب كارثة داخل الزمالك.. وواثق في قدرات اللاعبين أمام دريمز    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    إصابة 8 أشخاص في تصادم 3 سيارات فوق كوبري المندرة بأسيوط    أبرزها الاغتسال والتطيب.. سنن مستحبة يوم الجمعة (تعرف عليها)    عاجل.. رمضان صبحي يفجر مفاجأة عن عودته إلى منتخب مصر    انطلاق حفل افتتاح مهرجان الفيلم القصير في الإسكندرية    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    بشرى سارة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال رسميًا    ليلى زاهر: جالي تهديدات بسبب دوري في «أعلى نسبة مشاهدة» (فيديو)    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    رمضان صبحي يحسم الجدل بشأن تقديم اعتذار ل الأهلي    نقابة محاميين شمال أسيوط تدين مقتل اثنين من أبنائها    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    هاني حتحوت يكشف تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    عاجل - بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024 فعليًا.. انتبه هذه المواعيد يطرأ عليها التغيير    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    "حزب الله" يعلن ضرب قافلة إسرائيلية في كمين مركب    مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    عيار 21 يسجل هذا الرقم.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 26 أبريل بالصاغة بعد آخر انخفاض    بالصور.. مصطفى عسل يتأهل إلى نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    القومي للأجور: قرار الحد الأدنى سيطبق على 95% من المنشآت في مصر    مصدر نهر النيل.. أمطار أعلى من معدلاتها على بحيرة فيكتوريا    برج العذراء.. حظك اليوم الجمعة 26 أبريل 2024 : روتين جديد    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسرار الوداع الأخير..
وفاته مازالت لغزا محيرا.. وجنازته أضخم استفتاء فى التاريخ

لى كوان يو يطلب مشورة ناصر للنهوض بسنغافورة.. ومانديلا: رفعت رأسى فى «بريتوريا» كى ترانى من «القاهرة»

لمحتْ الجماهير الهادرة جثمان الزعيم فى نعش، يحيطه علم مصر، محمولا على عربة مدفع تجرها ستة خيول سوداء، فانفلتت المشاعر طوفانا جامحا من كل عقال، صارت العربة بخيولها قطرة فى بحر من البشر، كأن كل واحد منهم يريد أن يدفن البطل فى قلبه، هتفت الحناجر: «لا إله إلا الله، ناصر حبيب الله»، تمسك الحرس بالجثمان دون جدوى، ممثلو مائة دولة، بينهم ثلاثون رئيسا وعشرون رئيس وزراء، لم يقطعوا سوى عشرة أمتار من أمام مجلس قيادة الثورة، صوب ميدان التحرير، وصلت تحذيرات إلى أجهزة الأمن، أن أتباع طرق صوفية ينوون خطف جثمان جمال عبدالناصر، ويطوفون به على أضرحة أولياء الله الصالحين بالقاهرة، اعتبره بعضهم «سادس الخلفاء الراشدين».
.................................................................................
وبرغم الأمواج البشرية المتلاطمة التى تتجاوز خمسة ملايين مواطن، فإن الجنازة وصلت إلى مسجد القبة، أدى شيخ الأزهر الصلاة عليه.. لحظة نزول الجثمان المقبرة الملحقة بالمسجد الذى بناه ناصر قبل رحيله، صرخت فلاحة ترتدى السواد، بكل الحزن والألم: سايبنى لمين يا ريس؟..كأن مصر جاءت فى صورة تلك السيدة البسيطة لتسأله هذا السؤال، لحظة وُرى الثرى، لحظة لم تر أرض الكنانة، أو يشهد التاريخ حشدا مثيلا لها. على امتداد الرقعة العربية، من الخليج إلى المحيط، ساحت حشود مماثلة تودع ناصر، أصدر قادة الأمة وممثلوهم بيانا –حضر الزعماء جميعا إلى القاهرة، باستثناء الملك فيصل- أكدوا فيه تمسكهم بنهج رائد القومية العربية، قالوا: «نحن...مجتمعون فى القاهرة يوم ورى جثمان عزيزنا الراحل، وفقيدنا الكبير، المقاتل المستبسل، والبطل الجسور، المغفور له الرئيس جمال عبد الناصر، وقد كنا نحمل أحزان أمتنا الكبيرة عليه وفجيعتنا فيه وأمتنا أشد ما تكون حاجة إلى حكمته، وإلى حزمه وعزمه، وإلى صدق جلده وجهاده، ونبل معدنه».. رثاء الملوك والرؤساء العرب الجماعى لعبد الناصر لم يتكرر مع زعيم عربى آخر. وفاة أم قتل؟ مازالت أسباب وفاة عبد الناصر فى الثانية والخمسين من عمره لغزا، لا يجد تفسيرا، هل كانت الوفاة طبيعية أم تم تسميمه؟! وهل كان السُم بفنجان قهوة أعده له خلفه، أم فى كوب عصير برتقال تناوله فى بيته؟.. لا «فصل للخطاب» حتى اللحظة، الجميع يجلس على طاولة المُناقشات، حاملا الشكوك لمن يجلس بجواره، أصابع الاتهام تُشير إلى هذا الشخص أو ذاك الظرف فترة، قبل أن تنتقل إلى سواه، الحقيقة يعلمها الله. فاضت روح الزعيم إلى بارئها، مع ذكرى الإسراء والمعراج، الساعة السادسة والربع من مساء الاثنين 27 رجب 1390، الموافق 28 سبتمبر 1970، وشيعته الجموع فى الثانى من أكتوبر1970، وبعد ثمانية وأربعين عاما، يحق لنا أن نتساءل: لماذا انفطرت القلوب وبكت العيون لرحيله وخرجت الملايين للقائه فى لحظات الفراق الأخيرة؟ لماذا عاش «خالد الذكر» فى أفئدة أهل الكنانة وشعوب أخرى عبر قارات الدنيا؟ ثم هل كانت مصر أفضل تحت حكمه أم فى عصر الملكية؟ ألم يكن ديكتاتورا غاشما، جر الخراب والويلات والنكسات على البلد والمنطقة،؟ ألا يعده البعض «حنجوريا» فى أقواله، «عنتريا»، فى تصرفاته، ناطح بلا هواده القوى الكبري: بريطانيا، فرنسا، أمريكا؟ إلخ..أسئلة بلا نهاية، تبغى تقويم التجربة الناصرية، إخفاقاتها وإنجازاتها. بالطبع ليس هناك تجربة فوق الحساب أوالنقد، شريطة الموضوعية، لكن للأسف، تبتعد الآراء أحيانا عن ساحة التقويم إلى براح التجريح والإنكار، بحسب الغرض والهوى، أغلب القذائف، فى صورة حملات إدانة عاصفة، حقا وباطلا، مازالت متقدة بالأحقاد، يشارك فيها أفراد وجماعات وقوى إقليمية ودولية. فى الخلفية يتردد صوت الرئيس السادات، قائلا: «الله يرحمه!»..بطريقة ذكّرت الأستاذ أحمد بهاء الدين، بعبارة «أنطونيو»:»لكن بروتوس رجل شريف!»، أى أنه يقصد بالضبط عكس ما يقول. باتت كراهية عبد الناصر موضة هذه الأيام..أن تترحم عليه أو تمتدحه، وسط الأذكياء العالمين ببواطن الأمور، تعرض نفسك للازدراء والاتهام بالحماقة قد يتطاير لعاب أحدهم فى وجهك أو يدفعك فى صدرك، وهو ينهرك: «عمل إيه عبناصر ده..غير الكوارث؟!». فى كل الأحوال علينا ألا نستغرب فالشخصيات التاريخية العظيمة مازالت محل جدل، نابليون لدى الفرنسيين، بسمارك فى ألمانيا، ماوتسى تونج فى الصين.
أول طابور أعداء ناصر «جماعة الإخوان»، حاولوا اغتياله حيا وإهانته ميتا، كانا طرفين طامحين للحكم، ولا بد أن يتصادما بعنف، كلاهما أراد الطرف الآخر واجهة يحكم من ورائها.. ولما مات خرج القابعون فى معتقلاته منهم، حولوه إلى شيطان وكافر وعدو الإسلام والإنسانية، لقى ذاك تشجيع السلطة القائمة، يذكر أحمد خالد توفيق أن مؤرخا إخوانيا شهيرا زعم أن عبد الناصر عندما أجرى جراحة الزائدة، كان على علاقة آثمة فى المستشفى مع ممرضة، وأنجب منها طفلا غير شرعي!..السؤال هو: متى تمّ هذا؟ قبل الجراحة والزائدة توشك على الانفجار، أم أثناءها وهو مخدَّر، أم بعدها والخيوط تملأ بطنه؟!..فى أول خطاباته صرخ محمد مرسي:»الستينيات وما أدراك ما الستينيات»، غامزا قناة رجل مازال طيفه يؤرقهم، رد الشعب برفع صور الزعيم فى ميادين 30 يونيو 2013، وبهتاف كاشف: «عبدالناصر قالها زمان: الإخوان مالهمش أمان».
أدعياء النعمة
فريق من بعض أدعياء النعمة يشتمون الرجل، ليوحوا بأنهم من علية القوم أو ذوى الأملاك، هكذا يستمر تلويث سمعته بشتى الوسائل، على نحو يذكر بما فعله ملك بريطانيا شارل الثانى، عندما استخرج جثة عدوه «كرومويل» من قبره، وشنقها لمدة أسبوع!. اتفق معك على أن ناصر لم يكن «معصوما»، أجمل وصف قرأته عنه، قاله الشاعر العراقى الجواهري:»عظيم المجد..عظيم الأخطاء». بداعى الإنصاف، فإن جمال، أحببته أو كرهته، حمل مشروع حقيقيا كى يجعل مصر دولة مستقلة مرهوبة الجانب، زعيمة -لا تابعة- لأمتها وقارتها والعالم، قاد ثورة الضباط الأحرار، من أجل حرية الوطن وكرامة المواطن، خاض معارك فى الداخل والخارج، انتصر فى بعضها نصرا مؤزرا، وانكسر فى أخرى انكسارا أليما، وإذا أردت الحق فإن السر فى عظمة ناصر لا ينفصل عن عظمة معشوقته (مصر)، اكتشف حقيقتها، أدرك أنها لا تنتظر تغييرا من خارجها، إنما هى مؤهلة لتقود التغيير فى محيطها وعالمها، تحولت من بلد منكفئ على هموم التغيير الداخلى والتحرر من الاستعمار، إلى دولة حرة مستقلة يحكمها أبناؤها، أعاد مصر للمصريين لأول مرة، منذ نهاية عصر الأسرات المصرية، قبل أكثر من 2500 عام. دولة أخذت ترسم خارطة طريق لتغيير دولى، منذ محطة باندونج عام 1955، سقطت من خلاله إمبراطوريات الاستعمار القديم، تشكلت ملامح عالم جديد تلعب فيه دول عدم الانحياز دورا مهما، هل يجادل أحد فى أن ناصر بطل الاستقلال والتحرر الوطنى، مصريا وعربيا وإفريقيا وعالم ثالثيا، ربما!، عندما جاء الزعيم الإفريقى نيلسون مانديلا إلى مصر، عام 1995، قال بأسي: «كان لدى موعد تأخر ربع قرن، مع رجل رفعت رأسى فى «بريتوريا» كى يرانى من «القاهرة»، ثم حالت ظروف قاهرة بينه وبينى لألقاه، وحين جئت إلى مصر، كان من سوء حظى أن جمال عبدالناصر لم يعد هناك، سأزور فى مصر ثلاث أماكن: الأهرامات والنيل العظيم وضريح الرئيس عبدالناصر»، ووصفه بأنه «الأب الروحى لإفريقيا». اكتشف عبد الناصر بحّس تاريخى استراتيجى، وبوعى ثقافى حضارى، أن مصر تتحرك فى دوائر ثلاث، عربية وإسلامية وإفريقية، فقاد بلاده لكى تلعب الدور الحاسم فى هذه الدوائر، دورا ما زال أحرار الأمة وأمم الجوار يذكرونه لمصر وقائدها.
يوليو..حلقة فى سلسلة
كانت ثورة يوليو حلقة فى سلسلة الكفاح الوطنى فى العصر الحديث، بدأ منذ ثورات الشعب ضد الفرنسيين وثورة عرابى وثورة 1919العظيمة، وصولا إلى كفاح المصريين، اليوم، للعيش باستقلال وحرية وكرامة، وهذا ما يغفل عنه الذين يحبون عبدالناصر بعماء. اكتشف قائد يوليو حاجة مصر لأبنائها، خاصة الفقراء والمهمشين وأبناء الطبقة الوسطى، أرسى مشروع العدل الاجتماعى، حتى لا يموت فقير من العوز، ولا غنى من التخمة، قضى على استغلال العمال وبنى لهم المصانع، رفع هامات الفلاحين ووزع عليهم الأرض، أنشأ البيوت للطبقات الفقيرة، حقق مجانية التعليم؛ فاتسعت الطبقة الوسطى على نحو لا سابق أو لاحق له، كما يؤكد الدكتور جلال أمين، شق لهم طريقا يبسا كى يسهموا فى بناء المجتمع ونهضته، يقول عنه نجيب محفوظ: «إنه أكثر من أنصف الفقراء، وما لم يستطع تحقيقه أعطاه لهم أملا، لذلك فالناس لا تنساه أبدا، لأن الأمل لا يموت، وربما كان هذا هو السبب الذى يجعل اسم عبد الناصر وصوره ترتفع فى كل مظاهرة شعبية». هنا، دعنى أعترف لك ببعض عيوب الرجل وأخطائه: الحكم الفردى، تفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة، عرقلة التطور الديمقراطى فى مصر، إلخ، كل خطأ منها طامة كبرى، ودلالة لغياب الحكم الرشيد، ولا حل لها إلا باتباع القواعد الدستورية، لكن أرجو فى المقابل أن نتحلى بقدر من العدالة، تجعلنا لا نتفق مع سيول الكتب والمقالات والدراما التى تصور الرجل وعصره «شيطانا رجيما»، قل ما شئت عنه، إنما لا يمكن لأحد إنكار أنه كان محبا شغوفا بهذا الوطن وشعبه، كتب أحمد خالد توفيق أن عبدالناصر «مات مدينا وأخذ قرضا من الحكومة من أجل زواج ابنته، لم يعرف من مباهج الحياة سوى الخبز والجبن الأبيض، حتى إنه سبب حرجا بالغا لمن حوله أكثر من مرة، عندما لم يعرف طائر الفيزان الفاخر الذى يقدّم فى المآدب، أو يسمع عن الكافيار، أو يزر الريفيرا». من سخرية القدر أن يكتب الأستاذ عمرو موسى، أخيرا، أنه طلب مرة طعاما من سويسرا؟!.
للجميع.. وإلا فلا!
فى كتابه «أطباء مصر كما عرفتهم» يروى صلاح جلال، عن الدكتور النبوى المهندس رائد طب الأطفال ووزير الصحة بين عامى 61 و68، أن عبدالناصر كان مهتما بإدخال مصل شلل الأطفال إلى مصر، وأنه اتصل مرات بالسفير الأمريكى لهذا الغرض، فأهداه السفير كمية من المصل لتحصين أطفاله الخمسة: هدى وخالد ومنى وعبد الحكيم وعبد الحميد. سأله عبدالناصر عن إمكانية شراء المصل لوقاية كل أطفال مصر، فرد السفير بأن العقار باهظ الثمن، لأنه مكتشف حديثا، فأعاد ناصر الهدية للسفير، قائلا: «لا يمكننى أن أحمى أطفالى من مرض لا يستطيع غيرى من المصريين أن يحموا أطفالهم منه»!، اترك لك التعليق!.
حكى الكاتب فؤاد قنديل أن الصدفة جمعته، فى شهر أغسطس عام 1969، مع سيد مرعى وزير الزراعة وآخرين، فى منزل حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية، ووضعت أمامهم صينية بها حبات «اليوسفندى» (الماندرين)، ومصر لا تعرف هذه الفاكهة فى الصيف، وفجأة دخل عبدالناصر بطوله الفارع وبريق عينيه الذى لم تطفئه الهزيمة، قاموا لاستقباله، ثم جلس الرئيس، نظر إلى الفاكهة باستغراب، ومد يده وأخذ واحدة، وقال: « حاجة تفرح، فاكهة الشتا طلعتوها فى الصيف، دا نجاح للزراعة المصرية». سكت مرعى، لكن الشافعى قال: «الفاكهة دى لسه جايباها الطيارة من باريس»، كان الزعيم قشر حباية، ووضع ربعها فى فمه، ولما سمع كلام الشافعى (طرش) من فمه الفاكهة، وهب واقفا بغضب شديد، وخرج، أرسل الشافعى سائقه خلف عبدالناصر، وعندما رجع حكى له أن الرئيس أخذ يضرب الكرسى فى السيارة، ويقول: «الخونة، الكلاب، بياكلوا فاكهة من باريس، والبلد غرقانة فى الهزيمة، والدموع تتحجر فى مقلتيه» ظل عبدالناصر رجلا عفيفا نزيها، لم تجد له المخابرات الأمريكية نقطة ضعف، مال، نساء، أو خلافه، كان قنوعا بسيطا، يمتلك 3 أحذية، 4 بدل، ولم يقبل هدايا من أحد طوال عمره، إلا مرة واحدة، «كرتونة تفاح لبنانى»، من الزعيم الدرزى كمال جنبلاط!.
شخصية عبدالناصر نفسها قد تكون مفتاح الإجابة، لقراراته ومجريات حياته، إذ لا شيء يجعلنا عظماء مثل ألم عظيم، عندما أتم دراسته الثانوية، أراد الالتحاق بالكلية الحربية، للإسهام بتحرير الوطن، نجح بالكشف الطبى، ورسب فى كشف الهيئة، حفيد فلاح من بنى مر، أبوه بوسطجى لا يملك شيئا. غير وجهته إلى كلية الحقوق بجامعة فؤاد (القاهرة)، بقى بها ثلاثة أشهر، عجز والده عن سداد المصروفات الدراسية، فاقترحت زوجة أبيه أن يكتفى بهذا القدر من التعليم، ويعمل بشهادة البكالوريا. ضاقت عليه الأرض بما رحبت، لم يستسلم كعادته، تفتق ذهنه عن طلب الالتحاق بالكلية الحربية ثانية - الدراسة بها داخلية مجانية- بعدما طلبت دفعة ثانية فى خريف 1936، ذهب لمقابلة وكيل وزارة الحربية اللواء إبراهيم خيرى الذى أعجب بجرأته ووطنيته، فوافق على دخوله فى الدورة التالية مارس 1937. ذاق عبدالناصر مرارة الفقر، لكنه استطاع أن يعالج (عقدة فقره)، بأن فتح أبواب الترقى الاقتصادى والاجتماعى والثقافى أمام أعداد غفيرة من الطبقات الدنيا، وهم الأغلبية الساحقة من المصريين الذين ظلوا محرومين قرونا من كل الفرص، تصرف باعتباره ممثلا لمصالح الفقراء، عندما رفضت الرأسمالية الوطنية أن تمد يد العون إلى البلد، بل تعاونت مع المستعمر على أمل الإطاحة به. كان ناصر»الصعيدى» ابن الكلية الحربية، مؤسس تنظيم الضباط الأحرار أيقونة الاستقلال، مثلما كان بطل التنمية، على قدر أهل العزم تأتى العزائم النجاح الساحق للخطة الخمسية الأولى، وبناء السد العالى، وتوسيع الرقعة الزراعية والمصانع، مجرد أمثلة، تفوقت مصر على الصين وكوريا الجنوبية، لى كوان يو الأب الروحى لسنغافورة طلب المساعدة من جمال، كى يصنع نهضة مماثلة فى بلده.
الثورة المضادة
الثورة المضادة يظن بعض الناس أن ثورة يوليو لا تزال قائمة، فى الحقيقة ثورة يوليو انتهت فعليا، عام 1971، وما وصلنا إليه طوال أربعة عقود من هدم روح يوليو، نتيجة الثورة المضادة، والسير عكس ما أراد عبد الناصر؛ عندما تقيم مصنع عطور، ثم يهدمه أحدهم ويحوّله إلى مقلب نفايات؛ فهل يُعقل أن يقول الآخرون بعد زمن إن مصنع العطور كان فكرة فاشلة، والدليل أنه لم يُنتج زجاجة عطر واحدة وعُمّاله جياع يتسوّلون؟! يورد صلاح عيسى – كان معتقلا فى سجون عبدالناصر- أسباب اتهام الرجل بالدكتاتورية فى كتابه «مثقفون وعسكر»، مشيرا إلى أن حجم زعامة عبد الناصر كانت تحديا لكل النظام الاستعمارى الاستغلالى، ومن ثم كان محتاجا إلى قوة مركزية كبيرة، تمكِّنه من الصدام مع النظام الإمبريالى والاستغلال الطبقى فى وقت واحد. كان أستاذا فى الاستراتيجية، إنه أحد الرجال الذين تعاملوا مع جيواستراتيجية الشرق الأوسط والعالم، برؤية تقوم على دفع الأمانى الوطنية والقومية، من معركة السويس والتأميم، إلى المعركة ضد مبدأ أيزنهاور وضد حلف بغداد، خرج ناصر زعيما للأمة، وخرجت مصر الدولة المركز وغيرها الأطراف، ربما كانت الوحدة مع سوريا عام 1958، خطوة قبل أوانها، لكنها مثلت ضرورة فرضها مسار مقاومة الاستعمار الغربى وأذنابه، ورفع لواء الاستقلال العربى فى أول محاولة جدية منذ أيام محمد على باشا. انعكس ذلك رهابا إسرائيليا ورفضا إمبرياليا، حتى ردد ديفيد بن جوريون مؤسس إسرائيل، بابتهاج: كان لليهود عدوان تاريخيان، فرعون فى القديم، وهتلر فى الحديث، لكن عبدالناصر فاق الاثنين معا فى عدائه لنا، خضنا الحروب من أجل التخلص منه، حتى خلصنا الموت منه». ذات يوم قال يفجينى بريماكوف رئيس الوزراء الروسى الأسبق لمحمد حسنين هيكل «فى معتقدكم أن الله بعث بآخر أنبيائه, ربما لأنه ضاق ذرعا بأنبياء التوراة، من أجل توحيد العرب, دون أن يتمكنوا من ذلك، هل تتصور أن باستطاعة عبد الناصر، وقد يكون آخر القادة الذين أتت بهم السماء، الاضطلاع بهذه المهمة؟». بيد أن هيكل كان يعتقد أن بعض العرب قاموا بنصف المهمة لتدمير مصر فى عام 1967, قبل أن يتكفل الإسرائيليون بالنصف الآخر. يحلو لكارهى الرجل العزف على وتر نكسة يونيو 67 الحزينة، وهى بالفعل أشد أخطاء عبدالناصر شناعة وألما، يحملونه المسئولية (منفردا) عنها، دون نظر للظروف الداخلية والإقليمية والدولية، ولو قبلنا هذا المدخل فى التحليل السياسى، فيمكن أن نحمل ستالين المسئولية الشخصية عن هزيمة الجيوش السوفييتية وتراجعها المخزى أمام القوات الألمانية، خلال بدايات الحرب العالمية الثانية ومقتل 20 مليون جندى، أو أن نحمل الرئيس روزفلت المسئولية الشخصية عن معركة بيرل هاربر وتدمير معظم الأسطول البحرى الأمريكى ومقتل أربعة آلاف جندى فى خمس ساعات. برغم ذلك تحمل ناصر المسئولية من تلقاء نفسه، والتف حوله الشعب المصرى المخلص كما لم يحدث فى التاريخ أن التف شعب حول قائد تعرض جيشه لهزيمة قاسية، فلم يخيب ظن الشعب به، وكانت ملحمة إعادة بناء وتسليح الجيش المصرى، وخوض حرب الاستنزاف طوال ثلاث سنوات، ووضع خطة تأسيس وبناء حائط الصواريخ المصرى الشهير، ثم الخطة جرانيت نواة خطة العبور العظيم فى أكتوبر 1973. خذوا سيناء! فى حواره مع «نيوزويك» الأمريكية عام 1969، قدم ليفى أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلى عرضا للزعيم: «سنرد لك سيناء بدون شروط مقابل أن تهتم بشئون مصر ولا تتدخل فى شئون الدول العربية الأخرى»، رفض ناصر العرض وأصر على عودة الأراضى العربية كلها والحل الشامل للصراع، وأخذ يستعد للنزال، لكن أصابع المنية كانت أقرب إليه. هل أصبح العرب أفضل بغياب ناصر، انظر إلى سوريا، ليبيا، العراق، اليمن،... وغيرها، دول تتداعى، ومجتمعات تتفكك، العرب قاطبة من «الأفول» إلى «الموت»، يقفون عرايا، فى مهب الريح، (واللاتاريخ)، تتداعى عليهم الأمم، من كل صوب، كل شيخ قبيلة يدعم بالمال والسلاح تجمعا قبليا يعمل لحسابه فى هذا البلد أو ذاك أما الغرب فيغزونا حين يشاء، يستنزف ثرواتنا، يصنع أنظمتنا كيفما يشاء، يفتتنا كما الأوانى المحطمة، حتى تعجب ديزموند ستيوارت من أحوال العرب:»إنهم يحفرون بأسنانهم الطريق إلى جهنم»، كيف تكون تركيا خيارا لبعضهم، وقد وضعت العرب على قارعة العدم أربعة قرون، أو يرتمى آخرون بأحضان الشاه المتدثر بمعطف المرشد، بل كيف تكون إسرائيل بديلا، وهى تنفذ وصايا يهوه فى أن نكون عبيدا للهيكل؟ الأزمة فى بلاد العرب جيوبوليتيكية بالأساس، تكشف عن غياب الرؤية والديناميكية، وتفضح الاعتلال الايديولوجى والاعتلال الاستراتيجى لدى (الأمة)، وتوحى بأنها على مفترق طريق يفضى إلى المجهول، ما أروع محمد أركون، حين حذّر من:»البقاء فى غرفة العدم». التقدم إلى الإمام فى التاريخ قد يكون رجوعا، أحيانا، ولأنه فى الليلة الظلمأ يفتقد البدر، فإن ما يجرى، يؤكد دون شك أن مشروع عبدالناصر، بمعنى أدق التكامل العربى هو المشروع العقلانى القادر على انتشال المجتمع العربى من مأزقه واستعادة تماسكه الاجتماعى والبنيوى، بإقصاء الطروحات الطائفية والقطرية، والتعاون الحقيقى لا الزائف، أدرك الزعيم التلازم الخبيث بين التجزئة والتبعية والتخلف من جهة، والتلازم الحميد بين التكامل والوحدة والنهضة والتحرر من جهة أخرى، قالها جبران:»ويل لأمة مقسمة إلى أجزاء..كل جزء يحسب نفسه فيها أمة». وحتى آخر يوم فى حياته، عمل ناصر 18 ساعة يوميا، حقنا لدماء العرب، بين بعضهم بعضا، (أيلول الأسود)، ودفاعا عن مصالحهم فى وجه أعدائهم. رقد ناصر رقاده الأبدى، لكن أفكاره ومسيرته، لاتزال قابلة للإشعاع، ولو أن المشكلة فى اسم «عبدالناصر»، إذن لنتغاضى عنه، لننظر إلى المصالح المرسلة للشعوب العربية، هو نفسه كان يقول: «الأمة هى الباقية، وأى فرد مهما يكن دوره أو إسهامه فى قضايا وطنه هو أداة لإرادة شعبية». هاجم نزار قبانى الزعيم، عقب نكسة 67، فلما رحل عن دنيانا، رثاه بقصيدة حارة: «قتلناك يا آخر الأنبياء»، وكان أحمد فؤاد نجم مسجونا، عند وفاته، فكتب قصيدة، منها: عمل حاجات معجزة وحاجات كثير خابت وعاش ومات وسطنا على طبعنا ثابت وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت.
إن إخلاص الزعيم للجماهير وعزمه الفولاذى، وإرادته الصلبة، جعلته البطل خالد الذكر حبيب الملايين على مر الزمن، كانت مشاهد جنازته الأضخم فى التاريخ، استفتاء عفويا غير قابل للطعن بالتزوير، على جماهيرية رجل وهب أمته روحه، فوهبته قلبها وعقلها، برغم أى خلاف معه، وهو وارد ومطلوب، فالعظماء لا يموتون أبدا!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.