كان لملك في قديم الزمان أربع زوجات، أحبَّ الرابعة حباً شديداً، وبذل ما في وسعه لإرضائها.. الثالثة أحبَّها أيضاً، لكنه شعر بأنها يمكن أن تتخلى عنه في أي لحظة.. أما الثانية فكان يستعين بها في الشدائد، بينما كان يهمل الأولى تماما؛ برغم دورها الكبير في حفظ مملكته. ذات يوم مَرِضَ الملك، وشعر بدنو أجله، فقال: "لديَّ أربع زوجات.. لماذا أذهب إلى القبر وحدي؟". استدعى زوجته الأخيرة، وقال لها: "أحببتك أكثر من الأخريات، ولبيت طلباتك كافةً، فهل ترضين بأن تؤنسي وحدتي في قبري؟. ردَّت: "مستحيل"!. فخاطب زوجته الثالثة: "أحببتك طيلة حياتي فهل ترافقيني في قبري؟"، قالت: "لا.. وبصراحة: سأتزوج غيرك بعد موتك"!. لم يتسرب اليأس إلى قلبه، وخاطب زوجته الثانية: "كنتُ ألجأ إليك دائما في مواجهة أي ضيق، وطالما ضحيتِ من أجلي، فهل ترافقيني في قبري؟، أجابت: "سامحني.. لا أستطيع"، واستدركت: "لكن يمكنني أن أوصلك إليه"!. حزن الملك حزنا شديداً إزاء مواقف زوجاته الثلاث، فإذ بصوت يأتيه من بعيد: "أنا أرافقك في قبرك.. سأكون معك أينما حللتَ"، فنظر فإذ هي زوجته الأولى.. هزيلة من جرَّاء إهماله لها.. فندم ندمًا شديدًا على عدم رعايته لها، وقال: "كان ينبغي لي أن أعتني بك أكثر". طالعت هذه القصة في كتب ومواقع إلكترونية عدة، وأعجبني تفسيرها بأن كلا منا لديه أربع زوجات بالفعل، فالرابعة هي الجسد، الذي مهما أشبعنا شهواته؛ سيتركنا حالاً عند الموت، بينما ترمز الزوجة الثالثة إلى الأموال والممتلكات، التي سنتركها عند موتنا، وستذهب لآخرين، أما الزوجة الثانية فترمز للأهل والأصدقاء؛ إذ مهما بلغت تضحياتهم لنا؛ لا يجب أن نتوقع منهم أكثر من إيصالنا إلى القبور!. وأخيراً، تتبقى الزوجة الأولى، التي ترمز للروح والقلب، لكننا، للأسف، ننشغل عن العناية بها؛ لاهثين خلف شهواتنا؛ مع أنها الوحيدة التي ستصحبنا في قبورنا، فإن كانت هزيلة، تعاني من إهمالنا لها، فهذا سيعني خسارتنا الفادحة، وحرج موقفنا بين يدي الله، وإن كانت قوية، تتمتع بالعناية الجيدة، فهذا يعني أننا نسير في موكب: "الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا". (النساء:69). ولم لا وهذان إبراهيم ويعقوب، عليهما السلام، يوصيان بنيهما عند الموت بأعظم وصية، ألا وهي الموت على الإسلام. قال تعالى: "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ". (البقرة:132). ولمَّا كانت الشكوك تساور المرء أحياناً حول الموت، فهذه وصية "لقمان"، عليه السلام، لإبنه: "يا بنيّ: إن كنت تشكّ في الموت فلا تنم.. فكما أنك تنام كذلك ستموت، وإن كنت تشكّ في البعث فلا تنتبه من نومك.. فكذلك ستُبعث بعد موتك". وقد لخص عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، في كتابه إلى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حال العبد الصالح مع نفسه، بأن أوصاه بأن لا يكون كالبهيمة، فقَالَ: "قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ فَشَا لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ هَيْئَةٌ فِي لِبَاسِكَ وَمَطْعَمِكَ وَمَرْكَبِكَ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُهَا، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ مَرَّتْ بِوَادٍ خَصْبٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا هَمٌّ إِلَّا السَّمْنُ وَالْمَاءُ، وَإِنَّمَا حَتْفُهَا فِي السِّمَنِ". وفي تهذيب النفس وردت، أيضا، وصية الحسن البصري، يرحمه الله، لبعض طلابه: "لا تغترّ بمكان صالح، فلا مكان أفضل من الجنة، ولا تغترّ بكثرة العبادة، فإن إبليس بعد مُكثه في العبادة انظر ماذا لقي؟، ولا تغترّ برؤية الصالحين، فلا شخص أعظم من المصطفى، صلى الله عليه وسلم, فلم ينتفع به الكفار، والمنافقون". وأخيراً، قيل للتابعي الجليل إبراهيم بن أدهم، رحمه الله: "أوصِنا بما ينفعنا"، فقدم نصيحة ذهبية، إذ قال: "إذا رأيتُم النّاس مشغولين بأمر الدنيا، فاشتغلوا أنتم بأمر الآخرة.. وإذا اشتغلوا بتزيين ظواهرهم، فاشتغلوا بتزيين بواطنكم.. وإذا اشتغلوا بعمارة البساتين والقصور، فاشتغلوا بعمارة القبور.. وإذا اشتغلوا بخدمة المخلوقين، فاشتغلوا بخدمة ربّ العالمين.. وإذا اشتغلوا بعيوب النّاس، فاشتغلوا بعيوب أنفسكم.. واتّخِذُوا من هذه الدنيا زادًا يُوصلُكم إلى الآخرة، فإنّما الدنيا مزرعة الآخرة". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد