بروتوكول تعاون لإعادة تأهيل ورفع كفاءة مدارس التعليم المجتمعي بشمال وجنوب سيناء والإسماعيلية    هل تقتحم إسرائيل رفح الفلسطينية ولماذا استقال قادة بجيش الاحتلال.. اللواء سمير فرج يوضح    للمرة الأولى منذ 6 سنوات.. السيد البدوي يدخل حزب الوفد للمشاركة في تأبين رموز بيت الأمة    أحمد عيسى: 4% زيادة فى الحركة السياحية الوافدة لمصر خلال الربع الأول من العام الجاري    وزير الاتصالات يؤكد أهمية توافر الكفاءات الرقمية لجذب الاستثمارات فى مجال الذكاء الاصطناعى    مصدر رفيع المستوى: مصر تكثف اتصالاتها مع كافة الأطراف لوقف إطلاق النار في غزة    أردوغان ينتقد الموقف الغربي تجاه حرب غزة خلال زيارة شتاينماير    كيف تنظر بكين إلى زيارة "بلينكن" الأخيرة.. صحفية صينية تجيب    مدير إدارة المدرعات بالقوات المسلحة: الاهتمام بالحصان العربي المصري يحيي التراث    رسميا.. المنصورة إلى دوري المحترفين بعد التعادل أمام مالية كفر الزيات    تردد قناة الجزيرة 2024 الجديد.. تابع كل الأحداث العربية والعالمية    متى تنتهي الموجة شديدة الحرارة التي تضرب البلاد حاليا؟.. الأرصاد توضح    مكتبة الإسكندرية تستقبل الملك السابق أحمد فؤاد    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    متحدث «الصحة» : هؤلاء ممنوعون من الخروج من المنزل أثناء الموجة الحارة (فيديو)    «الزراعة» : منتجات مبادرة «خير مزارعنا لأهالينا» الغذائية داخل كاتدرائية العباسية    بعد إنقاذها من الغرق الكامل بقناة السويس.. ارتفاع نسب ميل سفينة البضائع "لاباتروس" في بورسعيد- صور    هاني شاكر يحيي حفل عيد الربيع في دار الأوبرا (تفاصيل)    منى الحسيني ل البوابة نيوز : نعمة الافوكاتو وحق عرب عشرة على عشرة وسر إلهي مبالغ فيه    حفل ختام برنامج «دوى» و«نتشارك» بمجمع إعلام الغردقة    أزمة الضمير الرياضى    سيناء من التحرير للتعمير    ارتفع صادرات الصناعات الهندسية ل1.2 مليار دولار بالربع الأول من 2024    البورصة تقرر قيد «أكت فاينانشال» تمهيداً للطرح برأسمال 765 مليون جنيه    تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "شقو"    جمعة فى مؤتمر رابطة العالم الإسلامى بالرياض: نرفض أى محاولة لتهجير الشعب الفلسطينى وتصفية قضيته    عاجل.. تنبيه مهم من البنوك لملايين العملاء بشأن الخدمات المصرفية    عناوين مكاتب تطعيمات الحج والعمرة بمحافظة كفر الشيخ ومواعيد العمل    فوز مصر بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية: تلقينا بلاغ عن وقوع انفجار جنوب شرق جيبوتي    إجازة شم النسيم 2024.. موعدها وعدد أيامها بعد قرار مجلس الوزراء بترحيل الإجازات    قريبا.. مباريات الدوري الإسباني ستقام في أمريكا    عيد الربيع .. هاني شاكر يحيى حفلا غنائيا في الأوبرا    توقعات برج الثور في الأسبوع الأخير من إبريل: «مصدر دخل جديد و ارتباط بشخص يُكمل شخصيتك»    حكم الاحتفال بشم النسيم.. الإفتاء تجيب    أوراسكوم للتنمية تطلق تقرير الاستدامة البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات    أدعية التوفيق والتيسير في الدراسة.. الأخذ بالأسباب مفتاح النجاح    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    العروسة في العناية بفستان الفرح وصاحبتها ماتت.. ماذا جرى في زفة ديبي بكفر الشيخ؟    طلاب كولومبيا: لن ندخل في مفاوضات مع إدارة الجامعة    تضامن الغربية: الكشف على 146 مريضا من غير القادرين بقرية بمركز بسيون    خدماتها مجانية.. تدشين عيادات تحضيرية لزراعة الكبد ب«المستشفيات التعليمية»    مديريات تعليمية تعلن ضوابط تأمين امتحانات نهاية العام    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    تفاصيل مؤتمر بصيرة حول الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادي للمرأة (صور)    الصين تعلن انضمام شركاء جدد لبناء وتشغيل محطة أبحاث القمر الدولية    حقيقة حديث "الجنة تحت أقدام الأمهات" في الإسلام    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    هل يجوز أداء صلاة الحاجة لقضاء أكثر من مصلحة؟ تعرف على الدعاء الصحيح    دماء على «فرشة خضار».. طعنة في القلب تطيح بعشرة السنين في شبين القناطر    الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق مستقل بشأن المقابر الجماعية في غزة    للقضاء على كثافة الفصول.. طلب برلماني بزيادة مخصصات "الأبنية التعليمية" في الموازنة الجديدة    اسكواش - فرج: اسألوا كريم درويش عن سر التأهل ل 10 نهائيات.. ومواجهة الشوربجي كابوس    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    نقابة الأسنان تجري انتخابات التجديد النصفي على مقعد النقيب الجمعة المقبل    ضبط 16965 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    الحج في الإسلام: شروطه وحكمه ومقاصده    بشير التابعي: أتوقع تواجد شيكابالا وزيزو في التشكيل الأساسي للزمالك أمام دريمز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية..
الزوجة الكسيكية 2
نشر في الأهرام اليومي يوم 21 - 09 - 2018

«ما الذى يَدفعُنِى أنْ أبعثَ شخصية «يحيى» للحياةِ مِن جديدٍ؟ بل مَن الذى ذَكَّرنِى بها؟! ألا يكفِى أنَّها أوقعتنا فى حيرةٍ بسببِ تناقُضاتِها، وغرائزِها المُتأرجِحةِ فى رواية «البيضاء»؟ لن أُجيبَ الآن، وسأكتفى بما انتَويْتُهُ. لن أبعثَهُ حيًّا وحده ولكنى سأُعيدُ الروح إلى «سانتى، والبارودى، وأحمد شوقى، وفتحى سالم، وأحمد سيف النصر، وكل الشخصيات التى صنعتْ نسيج هذه الرواية. فى هذه المرة، سيصبحُ الواقع ماثلًا إلى جانب الخيال. سيتحدثُ، ويتحركُ، ويتشاجرُ، ويُحِبُّ. سينحسرُ السِّتار عن أسرارٍ كثيرةٍ، بينما سيبقَى للخيالِ مكانٌ كى يَسُدَّ فجوات غابت فيها الحقائق عن مسار الأحداث». هذا ما يقوله الراوى الدكتور «سامى جميل» فى الفصل الاستهلالى لرواية «الزوجة المكسيكية»، وهو قولٌ يُنْبِئ عن قَصدِهِ من كتابةِ روايةٍ شارحةٍ عن رواية يوسف إدريس «البيضاء» التى أثارت انتباهه وإعجابه إلى درجة الهَوَس.
........................
وأستخدمُ هنا كلمة «الهَوَس» بمعناها الإيجابى لا السلبى. فالراوى والباحث الذى يتهوَّسُ بِنَصِّ روايةٍ مُلْتَبِسةٍ هى «البيضاء»، بل لا يَجدُ سبيلًا للكشفِ عن أسرارِها إلا بكتابةِ روايةٍ موازيةٍ لها؛ أى كتابة قصٍّ شارحٍ Metafiction»» قياسًا على المُصطلح المشهور فى علوم اللغة الحديثة Metalanguage»» ويعنى المصطلح فى مجاله النوعى الخاص: «اللغة عندما تقوم بوصف نفسها»، وذلك على نحوِ ما نراهُ فى نحو اللغة أو الحديث باللغة عن اللغة. وهذا ما نراهُ عندما ينقلبُ القَصُّ على نفسه، فيتحدثُ عن حضوره النوعى فى ذاته، أو الحضور النوعى لغيره. ولذلك فإن ما يقوم به الدكتور «سامى جميل» فى رواية «الزوجة المكسيكية» هو قصٌّ شارح Metafiction»» لرواية «البيضاء». فهو يُحْيِى شخصياتها؛ ليجعلنا نراها فى ضوءٍ جديدٍ، ومِن خلال أبطالها الأساسيين، ولكن مع استبدال بعض الأبطال بغيرهم على نحوٍ يجعلُنا نُعيدُ النظر فيما نعرفه عن رواية «البيضاء»، وعن كل أبطالِها على السواء، ابتداءً من «يَحْيَى» الذى يَتكشَّفُ قناعه عن وجهِ «يوسف إدريس» الذى يتعلقُ – فى شبابه الباكِر- بامرأةٍ، ليست هى «سانتى» اليونانية، وإنما شخصية غير متوقعة، هى شخصية «روث» المُهندسة المعمارية التى فَتَنتْ لُبَّ يوسف إدريس عندما ذهب إلى «ڤيينا» للمرة الأولى، بوصفه عُضوًا فى الوفد المصرى لحركة «أنصار السلام» الذى انضم إليه إلى جانب عبد الرحمن الشرقاوى وعبد الرحمن الخميسى وكامل البندارى والسيدتينِ سيزا نبراوى وإنجى أفلاطون. وهكذا نواجه روايةً شارحةً حديثة وحداثية للرواية الأقدم: «البيضاء»، تُفسِّر تناقضاتها، وتشرحُ ما لم تنجح «سانتى» اليونانية فى تبريرهِ، بل تستبدلُ بالبطلةِ المُتخيَّلة - على سبيل المجاز أو الرمز - بطلة حقيقية هى «روث» المكسيكية.
هكذا تنبنى رواية «الزوجة المكسيكية» بوصفها قَصًّا شارحًا Metafiction عن رواية «البيضاء» التى تُفضِى بأسرارِها المَخْبوءة عبر الرواية الشّارِحة لها. ولكن الرواية الشارحة، من حيث الوظيفة، تنطوى على معنى المعارضة الموازية Parody من حيث هى رواية عن رواية، توازِى الأولى فيها الرواية الثانية الأسبق عليها فى الوجود، وذلك بما يَصلُ الرواية الأحدث بالرواية الأقدم وَصْل التوازى الذى لا يَعنى التضاد، وإنما يَعنِى التشابه الذى لا يُدنى بالطرفينِ إلى حالٍ من الاتحاد الذى يؤكد المُشابهة التى تُفيدُ الغَيْريَّة وليس العَيْنيَّة كما يقول علماء البلاغة القدماء. ويعنى ذلك أن الأُسس نفسها التى تقوم عليها الرواية الأقدم هى نفسها الأُسس التى تقوم عليها الرواية الأحدث، سواء من حيث قوانين البناء أو العلاقات التى تحكُم حركة الشخصيات. وتُنبِّهُنا «الزوجة المكسيكية» – الرواية اللاحقة - إلى هذا المبدأ فى علاقتها بالروايةِ السابقة «البيضاء» من حيث ابتداء كل فصلٍ بمقطعٍ من مقاطع «البيضاء» على امتداد فصول رواية «الزوجة المكسيكية»، كى تلفتنا دائمًا إلى الأصل الذى تُشير إليه إشارة النظير إلى نظيرِهِ، حتى لو اختلف معه فى هذه التفصيلة أو تلك. وتنبنِى الروايتانِ (السابقة، واللاحقة) على المبدأ نفسه، وهو مبدأ التضاد أو الثنائية الضدية التى تضعُ العالَم الذى ينتمى إليه البطل «يحيى طه» (يوسف إدريس) إلى ثقافةٍ مُضادةٍ لثقافةِ البطلةِ التى تُحيلُ «سانتى» إلى «روث»، أو تستبدلُ بحضور «روث» الحقيقى حضور «سانتى» الخيالى، وذلك بحيث تصبحُ «روث ريفيرا» مكسيكية الثقافة فى التضاد الذى يَفصلُ ثقافة «سانتى» اليونانية عن ثقافة «يحيى طه» المصرية، خصوصًا حينما نضع فى اعتبارنا كثرة اليونانيينِ فى مصر فى الفترة التى تتحدثُ عنها رواية «البيضاء»، وعدم وجود مكسيكيين فى الفترة نفسها. وكما يَظهر التضاد فى المثالينِ السابقينِ، فإنه يَظهر أيضًا على مستوى العلاقة بين الراوى فى «الزوجة المكسيكية»، وهو أستاذ الأدب العربى فى الجامعة الأمريكية الذى يغدو قِناعًا – بدوره - لكاتِبِهِ (إيمان يحيي) الذى يتخفَّى وراء قناع أستاذ الأدب العربى المُنتدب فى الجامعة الأمريكيةِ، الدكتور «سامى جميل»، فى موازاة تلميذتهِ الأمريكية الفاتنة «سامنثا» الأمريكية التى تربطهُ بها علاقة لا تصل إلى نهاية مداها العاطفى بسببِ حِرصه وخوفه على مَنْصبِهِ. وهو الخوف الذى دَفَعه إلى تَجنُّبِ المُمارسة السياسية العَلنية، والحرص الذى يجعل سلوكه نقيضًا ل «سامنثا» على المستوى العاطفى، ونقيضًا لزميله القديم: «حمدى» زميل المدرسة الثانوية والجامعة. ف «حمدى» نموذجٌ للمثقفِ الثورى الذى لا يَكف عن النضال والتظاهر ضد الظلم والتنديد بالاستبداد، ولهذا يلمح «سامى» زميله القديم فى صور المظاهرات كما تَلمح الأنا نقيضها الآخر فى المرآة. و«حمدى» شَبيهُ «يحيى» بِقَدْرِ ما هو نقيض له، فهو يُحبُّ «سامنثا» الفتاة الأمريكيةِ التى تَخلبُ لُبَّهَ، والتى تبحثُ عن أصولها المصرية بعد أن عَرَفت من جدتها أن أمها من حَيِّ «السيدة زينب» أصلًا، وأنها ذهبت لدراسة الدكتوراه فى الولايات المُتحدة، وفَضَّلت الحياة هناك على العودة إلى مصر، وأصبحت أمريكية وأنجبت من زوجها، ومضى بها الزمن إلى أن أصبحت «سامنثا» حفيدة لها. ولذلك تنجذبُ «سامنثا» إلى حى السيدة زينب الذى تَنتسبُ إليه جدتها، فتبدو كأنها باحثة عن جذورها وأصل هويتها، متعاطفة مع كل المظاهرات الرافضة للقمعِ البوليسى فى عهد مبارك. وتظلُّ على موقفها الجذرى إلى أن تتولى السُّلطات الأمنية ترحيلها إلى الولايات المتحدة. ولكنها تظل على تواصلٍ عبر شبكة النت مع أستاذها «يحيى» الذى لا تتخلَّى عنه فى بَحثِهِ عن الحقيقة الخاصة بالزوجة المكسيكية. ومن هذا المنظور يمكن أن نرى «يحيى» (بطل يوسف إدريس) بوصفه قِناعًا لعاشقٍ لم يَنجح فى حُبِّه، وذلك بالقَدْرِ نفسه الذى نرى بهِ الدكتور «سامى جميل» قناعًا آخر لعاشقٍ لم ينجح فى حُبِّه الذى لم يكتمل ل «سامنثا» الأمريكية. وإذا أزلنا الأقنعة عن الأوجهِ الأصلية، ظهر لنا وجه الدكتور إيمان يحيى، أستاذ جراحة المسالك البولية فى جامعة قناة السويس، والحاصل على الدكتوراه من الاتحاد السوفيتى عام 1987، والذى عَرف من كتابات ومقالات «ڤاليريا كيربتشنكو» وعلاقته الشخصية بها، أن الحب الأول فى حياة يوسف إدريس كان لفتاةٍ مكسيكية، هى «روث» ابنة فنان الجداريات المكسيكى الشهير «دييجو ريفيرا» التى قابلها فى ڤيينا عام 1953، وأنه كَتَب عن هذه العلاقة مقالًا بعنوان «قصة الحب الأولى فى حياة صاحب الحرام» فى جريدة «البديل» فى القاهرة بتاريخ 18/6/ 2008، وأن المقال كان تعبيرًا عن حبه ليوسف إدريس الذى تزايد إعجاب إيمان يحيى به فى الاتحاد السوفيتى، خصوصًا بعد أن قرأ الكتاب الذى أصدرته ڤاليريا كيربتشنكو عنه عام 1980 فى موسكو باللغة الروسية؛ أى قبل وفاة يوسف إدريس بأكثر من عشر سنوات. وهو كتاب أُعجب به إيمان يحيى إلى درجة ترجمته إلى اللغة العربية، ونشره ضمن منشورات المركز القومى للترجمة عام 2018. وفى هذا الكتاب تُشيرُ ڤاليريا صراحة إلى قصة حب يوسف إدريس الأولى والقصيرة ل «روث» ابنة فنان الجداريات الشهير دييجو ريفيرا التى قابلها فى ڤيينا. (ص 110 من الترجمة العربية).
وإذا عُدنا إلى الثنائيات الموجودة فى الرواية ما بين قناعى (يحيى / يوسف إدريس) و(سامى جميل / إيمان يحيي) وجدنا أن كتاب ڤاليريا كيربتشنكو تتسرب بعض نصوصه إلى قراءة الدكتور سامى جميل فى أكثر من موضعٍ، على نحوٍ يُمكن أن يكون مجالًا مُفصَّلًا لنوعٍ آخر من التناص بين كتاب كيربتشنكو ونص رواية «الزوجة المكسيكية» التى نقرأ فيها ما يُذكِّر بِجُملِ ڤاليريا كيربتشنكو بعد ترجمتها. ولا تنتهِى التوازيات الثنائية عند هذا الحد، فإنها تمتد إلى وجهة النظر فى العمل الإبداعى نفسه، وهنا تَظهر الثنائية الضدية بين أفكار «سامى جميل» أستاذ الأدب العربى، وأفكار أستاذه «سعيد شرابى»، ف «سامى جميل» يرى أن دور الباحث والناقد هو: «إماطَةُ اللِثامِ عن الظروفِ والخفايا التى تُحيطُ بالعملِ الفَنِّى، وكيف يمكن أن يُساعدَ ذلك المُتلقِّى على فهم العمل والإحاطة به». بينما يرى أستاذه «سعيد شرابى» العكس من ذلك، مؤكدًا: «مُهِمَّتُنا تفسير العمل الأدبى بما يُظْهره من علامات، لا بما وراءه مُختَفٍ. هذا تَزيُّد غير مُفيد» (ص149). وتتكررُ هذه الثنائية مرة أخرى قُرب نهاية الرواية، كاشفة عن بعض الدوافع إلى كتابة رواية «الزوجة المكسيكية» عندما يعرضُ الدكتور «سامى جميل» على أُستاذه «سعيد شرابى» النتائج التى تَوصَّل إليها فى بَحثِهِ عن حقيقة «الزوجة المكسيكية». فما أن يُقابلَ أُستاذه فى أحد المؤتمرات، ويعرض عليه ما توصَّل إليه حول رواية «البيضاء»، إلا ونظر إليه الأستاذ بعصبيةٍ واضحةٍ ويصيحُ فى وجهه: «أَلمْ أقُل لكَ مِن قبل أن العملَ الفنى يؤخذ كما هو؟». فيجيبه تلميذه الدكتور «سامى جميل» بقوله: «لكن الظروف المُحيطة بالعمل، والدافعة له، هى جزءٌ من عمليةِ إنتاجه». فينفعل الدكتور «سعيد شرابى» ويجيبُ عليه صارخًا: «اسمعْ، ما قُمتَ به ليس بحثًا ولا نقدًا. قد يَصْلحُ لروايةٍ. اكتُبْها وخَلِّصْنا مِن شَطَطِكَ».
وموقف الدكتور «سامى جميل» (قناع الروائى إيمان يحيي) مُتَّسِق مع موقفهِ النقدى، فهو يُلقِى على الطُّلاب مُحاضراته مؤكدًا أن: «النظرية رَمادية، ولكن شجرة الحياة الأبدية خضراء». ويمضِى فى محاضراته شارحًا: «إن أشكال الإبداع الأدبى وارفةٌ خضراء، لكن أغلب الدراسات النقدية للأسف صحراء جرداء قاحلة. إذا لم يتناول الباحث الدارس العمل الأدبى بطريقة تُساعدُ القراء على اكتشاف بواطنهِ، ومواطن الجمال فيه، فإن دراسته تصبح إطارًا نظريًّا بلا معنى». ولا يُغالِى الدكتور سامى جميل فى قوله ذلك، فهو يؤمن أن وظيفة الناقد الأدبى، هى مساعدة القراء على اكتشاف بواطن العمل الأدبى ومواطن الجمال فيه، فإذا لم يفعل ذلك فإن دراسته تُصبح إطارًا نظريًّا بلا معنى، ولا يُغالِى أيضًا حين يقول: «إن الإحاطةَ بالظروف التاريخية والاجتماعية لما يتناوله النص الإبداعى، بل بزمن كتابته أيضًا، هى التى تُكْمِلُ رؤية الناقد والباحث للنص». ليس هذا فقط، بل إنَّ الدكتور سامى جميل يعود إلى الظرف التاريخى لكتابة «البيضاء» سنة 1955، والأحداث التاريخية الجذرية التى حدثت فى التاريخ المصرى وليوسف إدريس نفسه فى هذه الفترة الحاسمة من تاريخ مصر، يقصد فترة ما بعد إعلان الجمهورية فى البلاد، وما شهده عاما 1953و1954 من اضطراب سياسى واسع، ومطاردة – لا هوادة فيها - للسياسيين والأحزاب، خلال عامينِ انطويا على أجواء قاتمةٍ، ومغامرات عمل سرى وحملات قبضٍ واعتقال، ومصادرةٍ لِصُحفٍ كان لها شُهرتها ومكانتها المرموقة فى التاريخ المصرى الحديث. ويؤكد الدكتور سامى جميل (قناع إيمان يحيي) أن عام 1954 وأحداثه هو المِفتاح الأول لفَهْم «البيضاء». وتصيبه حالة هوسٍ بالبحث عن تاريخ كتابة «البيضاء»، وينتقلُ هذا الهوس منه إلى تلميذته «سامنثا» التى ينعكسُ عليها هذا الهوس، كما تنقلُهُ بدورها إليه حين يكتشفانِ المحجوب وغير المنطوق به من رواية «البيضاء» ليوسف إدريس، التى لا نزال نَعرفُها ونتمتعُ بها.
هكذا تمضى رواية «الزوجة المكسيكية» سردًا شارحًا لرواية «البيضاء». ويمضِى السرد الشارح إلى نهايته المفاجئة، ولكن الطبيعية والمنطقية فى تسلسل أحداثها وتتابعها إلى النهاية التى يُسجن فيها «يحيى» (قناع يوسف إدريس) ويُمضِى أحد عشر شهرًا فى المُعتقل، ويَخرجُ منه مُقرِّرًا عدم الانضمام إلى أى تنظيمٍ سِرِّى، بعد أن عانى ويلات التنظيمات السرية، خصوصًا تلك التى تحكمُها النظرات الأُحادية الجامدة، فيغدو أعضاؤها أقرب إلى قَصيْرِى النَّظر الذين يقودهم «أعمى»، لا يُفلحون فى رؤية الحاضر أو المستقبل.
قد نقول إن وجهة النظر هذه مرفوضة عند زملاء «يحيى» السابقين، ولكنها - وهذا هو المهم - هى ما انتهى إليه يوسف إدريس بعد خروجه من السجن، فنراه وهو مُخْتَفٍ وراء قناع «يحيى» وحيدًا مهجورًا بعد خروجه من المُعتقل، يسترجعُ السنوات الأخيرة من حياتهِ الحاشدة خلال ليلة رأس السنة، فيتذكر أنَّ احتفالَهَ بالسنة الوليدة – هذه المَرة - مُختلِفٌ، فقد أصبح وحيدًا منبوذًا من الأصدقاء، بعد أن استقبل رأس السنة مُحتفلًا بها ثلاث مرات عبر ثلاث سنوات متتالية: ليلة فى فيينا مع أبرز أدباء وفَنّانِى العالم رأسًا برأس، وليلة مع الأصدقاء بعد مغادرة «روث»، وليلة على «بُرش الليف» فى السجن، وليلته الأخيرة التى يجلسُ فيها وحيدًا، بلا نَديمٍ أو رفيقٍ، مُسترجِعًا ماضيه القريب والبعيد، مُتذكِّرًا هجوم الأصوليين من الماركسيين، أنصار الواقعية الاشتراكية عليه، دون فَهْمٍ لامكانات الخيالِ الأدبى أو أُفقٍ رَحبٍ لتفسيرِهِ من منظور واقعية بلا ضفافٍ. فينتهى الأمرُ به إلى الانفصال عنهم، ويتذكر «عيون «روث» وشوقى وفتحى والبارودى وعطوة وفؤاد». ولنلاحظ أن الجُملة التى أذكُرها هى الجُملة التى يكتبُها قناع (إيمان يحيي) الدكتور «سامى جميل» وهى الجملة التى تستبدل باسم «سانتى» اليونانى اسم «روث» المكسيكى. وهكذا تتحول «سانتى البيضاء» إلى «روث» الزوجة المكسيكية التى يستعيدُ يَحْيى (قناع يوسف إدريس) ذكرياتها المقترنة بالسياق الزمنى التراﭽيدى الذى عاش فيه. فيفتحُ دُرج مكتبهِ ويُخْرج أﭽندة اشتراها للعام الجديد، فوق غُلافها الأخضر كتب عام 1956 بخط كبير: «أفتحُ الأﭽندة وألتقطُ قلمى، وأبدأ فى الكتابة: لماذا نَكذِبُ على أنفسنا؟ إن لكل مِنّا قصةَ حبٍّ دفينةٍ قد وَضَعها فى أغوار نفسه، وكُلَّما مضى الزمن دفعها أكثر وأكثر إلى أعماقهِ، وكأنما يخافُ عليها من الظهور. وسوف أقولُ لكم كل شيءٍ عن قصة حُبِّى. ماذا أقول لكم؟».
هذه الجُمل التى يختتمُ بها إيمان يحيى (القناع - الشارح) روايته هى نفسها الجُمل التى يفتتحُ بها يحيى (القناع - المشروح) ما فعله يوسف إدريس (الكاتب) فى روايته «البيضاء». وما يعنيه هذا الأمر أن إيمان يحيى ينتهى فى رواية «الزوجة المكسيكية» عند النقطةِ التى تتكشفُ له فيها أسرار «البيضاء»، فيعود بنا إلى نص بداية «البيضاء» كأنما يُذكِّرُنا بأن نهاية روايته تأتى بعد انكشاف أسرار رواية «البيضاء» وتَعرُّف أسرارها وتناقضاتها على السواء. ولذلك كان من الطبيعى أن يتحوَّلَ اسم البطلة القديم «سانتى» إلى «روث»، بينما يبقى اسم بقية الأصدقاء كما هو أقنعة لأسماء حقيقية تُسمِّيها الروايتان (شوقى وفتحى والبارودى وعطوة وفؤاد) وغيرها من الأسماء التى تفرضُ حضورها على ذاكرة (يحيي/ يوسف إدريس) وتدفعهُ إلى كتابة تاريخه السرى مع «روث» التى استبدل باسمها الحقيقى اسم «سانتى» المَجازى.وكان من الطبيعى أن يكون الفصل الأخير على لسان «يحيى» بعد خروجه من السجن، وهو فصلٌ يرجعُ بنا إلى زمن كتابة «البيضاء»، وهو الأمر المُتعمَّد الذى يجعلنا ندركُ التباينَ بين الأصوات التى تتكوَّن منها رواية «الزوجة المكسيكية» فى مدى شرحها لرواية «البيضاء». فالبيضاء تنبَنِى كلها على صوت (المؤلف – الراوي) «يحيى» الذى يختفى وراء قناعه (يوسف إدريس) فى «مونولوج» واحدٍ طويلٍ، هو ما جعل زميلنا «خيرى دومة» يكتبُ عن الرواية بحثًا بعنوان «بينى وبين نفسي: قصة الحب وقصة الثورة» مؤكدًا فيه الأبعاد الدلالية لغلبةِ ضمير المتكلم على كل رواية «البيضاء». أما رواية «الزوجة المكسيكية» فإنها – بحكم مقصدها الفنى المختلف - تقوم على تعدد الأصوات، فالصوتُ الأول فى الفصل الأول، هو صوت الدكتور «سامى جميل» الذى نستمرُ فى سماع صوته عبر الفصل الثانى، ثم نعود فى الفصل الثالث لنسمع صوت (يحيي/ يوسف إدريس)، ثم نتتقلُ إلى صوت «روث» (الزوجة المكسيكية) ومنها إلى صوت «سامى جميل» فى الفصلينِ السادس والسابع، ومنهما إلى مراوحةٍ بين صوتى «روث» و«يحيى» فى الفصول من الثامن إلى العاشر. ويأتى الفصل الحادى عشر بصوت الدكتور «سامى جميل» (قناع إيمان يحيي) ليأتى بعده الفصل الثانى عشر بصوت «روث» لننتقل بعد ذلك فى مراوحةٍ بين أصوات «يحيى» و«روث» و«سامى جميل»، إلى أن يتكررَ صوت «يحيى» فى الفصلينِ التاسع عشر والعشرين كى نعودَ إلى الدكتور «سامى جميل»، ثم ننتقل إلى السبعينيات التى ماتت فيها «روث»، وأخيرًا إلى الفصل الثالث والعشرين والأخير الذى يتردد فيه صوت «يحيى» بعد خروجه من السجن وقراره كتابة رواية «البيضاء» التى لم يَجْرُؤ على نشرها إلا بعد ضغط من «صلاح سالم» الذى نشرها فى جريدة «الجمهورية» سنة 1959، حين كان رفاق «يحيى» فى المعتقلات الناصرية. وهذا هو السر فى تردد (يحيي/ يوسف إدريس) فى نشرها حيث لم تُنشر إلا مُتأخِّرًا فى بيروت سنة 1970 إن لم تَخُنِّى الذاكرة. ولا ينسَى الدكتور «سامى جميل» أن يُذكِّرنا – عبر الفصول التى نسمعُ فيها صوته - بحنينهِ الجارف إلى زمن العلاقة بين «يحيى طه» وقصته مع «روث» فى زمنهما، ويتذكر تلميذته «سامنثا» ومعابثاتها أو مشاكساتها، فيَقنعُ بالذِّكرى ويَهمِسُ لنفسه: «مِن المؤكد أننى سأظل عازبًا ووحيدًا بَقية عُمرى». وهنا تبدو العلاقة بين «سامنثا» والدكتور «سامى جميل» كأنَّها الحلم الذى لا يتحقق فى الواقع بسبب رغبة «سامى جميل» فى عدم الاصطدام بالسُّلطة القمعية للدولة، أو حتى بإدارةِ الجامعة الأمريكية التى يعمل فيها.
(وللتحليل بقية)
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.