نجل الراحل أحمد عمر هاشم ل"فيتو" بعد تعيينه بالشيوخ: سأكمل مسيرة والدي في خدمة الوطن    أول تعليق من وزير الخارجية الأسبق محمد العرابي بعد تعيينه في مجلس الشيوخ    وزير الدفاع يشهد تخريج دفعات جديدة من الكليات العسكرية (صور)    كفاءة أم مكافأة ...    بعد تعيينه عضوا بمجلس الشورى، من هو أشرف عبد الغني؟    شعبة القصابين: تراجع شراء اللحوم 20%.. والجزارون يتجهون لفتح مطاعم لبيع «الحواوشي»    مصلحة الضرائب و«رجال أعمال الإسكندرية» توقعان بروتوكول تعاون لتطوير المنظومة الضريبية في مصر    البورصة اليوم.. أسهم مواد البناء الأكثر ارتفاعًا وتحقق أقصى صعود يومي ب20%    «أقصر زيارة في التاريخ».. إعلام عبري يكشف تفاصيل زيارة ترامب لإسرائيل غدًا    جيش الاحتلال يتراجع إلى الخط الأصفر في غزة، وترجيحات بتسليم الأسرى فجر الإثنين    تفاصيل إنقاذ حياة رئيس البعثة العراقية ببطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي    محمد صبحي يحصد برونزية وزن 88 كجم ببطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي    ربة منزل تنهي حياة زوجها وتشعل النار في جثمانه بالشرقية    التأديبية تحجز محاكمة 60 معلما بمدرسة في قليوب للحكم    حسين فهمي يكشف سبب تغيير بوستر مهرجان القاهرة في دورته ال46    بعد تعيينه في مجلس الشيوخ، معلومات لا تعرفها عن الكاتب أحمد مراد    «مش بتسيبه من إيديها».. 3 أبراج لا تستطيع العيش بدون الهاتف    تردد قناة الفجر الجزائرية 2025 لمتابعة أحداث مسلسل قيامة أورهان (عثمان سابقًا)    رئيس منطقة مطروح الأزهرية يكرم الطالبة هاجر إيهاب فهمي لتفوقها في القرآن والخريدة البهية    قافلة دعوية برعاية «أوقاف مطروح» تجوب مدارس الحمام لتعزيز الانتماء ومحاربة التنمر والتعصب    نائب وزير الصحة يحيل إدارة مستشفى الأحرار التعليمي بالشرقية للتحقيق    استعدادا لظاهرة تعامد الشمس بأبوسمبل: الرعاية الصحية تجهز طواقم ووحدات طبية متنقلة    محافظ المنوفية يتفقد عيادات التأمين الصحي بحي غرب شبين الكوم    سويلم يلتقى نائب وزير البيئة والزراعة السعودى ضمن فعاليات أسبوع القاهرة الثامن للمياه    "سلامة الغذاء" تنفذ 51 مأمورية رقابية على السلاسل التجارية في أسبوع    باكستان تغلق حدودها مع أفغانستان عقب تبادل إطلاق نار عبر الحدود    برشلونة يحسم مصير ليفاندوفسكي ويبدأ البحث عن خليفته    ياسر جلال: انضمامي لعضوية مجلس الشيوخ المصري شرف كبير    بحضور كرارة وقمر وجنات وشيكابالا.. أسرة "أوسكار عودة الماموث" تحتفل بعرض الفيلم    "صحة الدقهلية" تعلن إجراء 41 ألف جلسة علاج طبيعي وتشغيل عيادة الأطراف الصناعية    هانى العتال عن تعيينه فى مجلس الشيوخ: شرف كبير أنال ثقة الرئيس السيسي    رام الله: مستوطنون يقتحمون خربة سمرة بالأغوار الشمالية    آلاف المتظاهرين يخرجون إلى شوارع العواصم الأوروبية دعمًا للشعب الفلسطينى    قرار عاجل من محكمة جنايات دمنهور بشأن المتهمين بقتل تاجر الذهب برشيد    الضرائب: الفاتورة الالكترونية والإيصال الإلكتروني شرط أساسي لإثبات التكاليف ورد ضريبة القيمة المضافة    التضامن: تنفيذ 121 زيارة رقابية لدور الرعاية.. وتحرير 8 محاضر ضبط قضائي    بالأرقام.. جهود الداخلية خلال 24 ساعة لتحقيق الأمن ومواجهة الجريمة    تعرف على مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم فى كفر الشيخ    شرطة النقل والكهرباء والضرائب تحصد نتائج ميدانية مميزة في حملات ضبط شاملة    بالفيديو.. ننشر جهود صندوق مكافحة الإدمان في أسبوع    هولندا في مواجهة قوية أمام فنلندا ضمن تصفيات المونديال    مي فاروق: «ألبومي الجديد تاريخي.. والتكريم الحقيقي حب الجمهور»    وزير الصحة يشهد حفل توزيع جائزة «فيركو» للصحة العامة في ألمانيا    رحيل فارس الحديث النبوى أحمد عمر هاشم.. مسيرة عطاء فى خدمة السنة النبوية    السيناريست هانى فوزى: لدى 11 سيناريو فى الدرج    تعرف علي أسعار البنزين والسولار صباح اليوم الأحد 12 أكتوبر 2025 فى محطات الوقود    لليوم الخامس .. فتح لجان تلقى أوراق طلبات الترشح لانتخابات مجلس النواب    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 12اكتوبر 2025 فى المنيا    مصر تتسلم رئاسة المنظمة الدولية للتقييس "أيزو" لمدة 3 أعوام بعد فوز مشرف ومستحق    بتهمة نشر أخبار كاذبة والإنضمام لجماعة إرهابية.. محاكمة 56 متهمًا اليوم    قيادي ب فتح يدعو حماس لإجراء مراجعة وإنهاء حكمهم في غزة.. ويطالب مصر باحتضان حوار فلسطيني-فلسطيني    الاعتراض وحده لا يكفي.. نبيل فهمي: على الدول العربية أن تبادر وتقدّم البدائل العملية لحماية أمنها القومي    العظمى في القاهرة 28 درجة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الأحد 12 أكتوبر 2025    سفارة قطر بالقاهرة تعرب عن بالغ حزنها لوفاة ثلاثة من منتسبي الديوان الأميري في حادث    تركيا تكتسح بلغاريا بسداسية مدوية وتواصل التألق في تصفيات كأس العالم الأوروبية    نجم الأهلي السابق: توروب سيعيد الانضباط للأحمر.. ومدافع الزمالك «جريء»    استبعاد معلمي الحصة من حافز ال 1000 جنيه يثير الجدل.. خبير تربوي يحذر من تداعيات القرار    «كفى ظلمًا».. حسام المندوه: أدخلنا للزمالك 800 مليون جنيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية..
الزوجة المكسيكية
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 09 - 2018

بِداية لا بد من توجيهِ الشُّكر إلى الأستاذ إبراهيم المعلم صاحب دار الشروق الذى أرسل لى هذه الرواية الفريدة من نوعها والمؤثرة إلى أبعدِ حدٍّ فى قارئها. وأعترفُ بأنَّنى ما إنْ بدأتُ فى قراءة الصفحات الأولى من هذه الرواية، حتى وجدتُنى مَشدودًا إليها، غيرَ قادرٍ على تَرْكِ صفحاتها، فتركتُ كل ما فى يدى وتفرَّغتُ لها إلى أن انتهيتُ من آخرِ صفحةٍ منها وَكُلِّى شعور بالفرحِ والدهشةِ والاستغرابِ فى آن. فالروايةُ غير عاديةٍ، ولم أرَ لها مثيلًا فى الكتابات الروائية العربية المعاصرة أو حتى غير المعاصرة. فاللمرةِ الأولى يكتب روائى معاصر لم أسمع عن اسمه إلا هذه المرة، هو الدكتور «إيمان يحيى»، روايةً عن روايةٍ مصريةٍ أخرى، هى رواية «البيضاء» الشهيرة للكاتب «يوسف إدريس» الذى نشاركُهُ الإعجاب والفتنة بأعماله. ولكن الدكتور إيمان يحيى لم يكتب رواية عن إعجابه برواية سابقة ليوسف إدريس فحسب، وإنما صنع حالةً تخييليةً من الكتابة عن طريق كتابةِ نَصٍّ على نَصٍّ أو رواية على رواية.
........................
«الزوجة المكسيكية» «هى رواية عجيبة وفريدة.. الخيالُ فيها واقعٌ حقيقيٌّ، والواقعُ فيها غارِقٌ فى الخيالِ. ينمحِى الحد الفاصل بينهما، فلا تعود تعرف أيّهما هذا وأيّهما ذاك». والحقُ أن هذا النَّص الذى تبتدِئ به صفحات الرواية هو مِفتاحها وكاشف أسرارها فى آن. فالرواية كما قلتُ رواية تخييلية تضع قارِئها فى حالٍ من المُراوحةِ النفسيةِ بين التصديق والتكذيب، أو الشك واليقين، لكنها فى كل الأحوالِ تُدهشُ هذا القارئ وتضعه فى حال من الاستجابة، تُفضِى به إلى فعلٍ أو انفعال، يتغيرُ القارئ به، وذلك بِقَدْرِ ما تتغير رؤيته إلى الواقع الذى يعيشه على السواء. وهذا هو معنى «التخييل» كما تصفه الكتابات القديمة، خصوصًا كتابات الفلاسفة الذين تحدَّثوا عن الإبداع الشعرى بوصفه تخييلًا يُحدِثُ أثرًا يُشبه السِّحر فى قارئهِ، فينقله من حالٍ إلى حال، أو يوهمه بوقوع ما لم يقع، أو يُريهُ ما ليس موجودًا، وذلك بالطريقة نفسها التى تجعله يرى الخيال كأنه واقعٌ حقيقى فى مدى التخييل الذى يمحو الفاصل بين الحقيقة والواقع، فيختلط الاثنان معًا ويظل القارئ مُحيَّرًا بين الواقع والخيال تمامًا، كما حدث لِيَ عندما فرغتُ من قراءة هذه الرواية وفى أثناء قراءتها على السواء.
وبَطَلُ رواية «الزوجة المكسيكية» للدكتور إيمان يحيى، هو الدكتور «سامى جميل»، أستاذ الأدب العربى الحديث، الذى يقوم بتدريس نصوصه البارزة فى الجامعة الأمريكية التى لجأ إليها لكى يستريحَ من فوضى الجامعات المصرية وفسادها. وهو فى العَقْد الخامس من عُمره، لم يعرف المرأة إلا فى تجربةِ زواجٍ فاشلةٍ، وتَعوَّدَ على التدريس لِطُلابه نصوص الأدب العربى، خصوصًا نصوص العصر الحديث التى تغلب عليها «الرواية»، ويقف يوسف إدريس بإبدعاته فى الصدارة من هذه النصوص. وطبيعى عندما تلتحقُ «سامنثا» الفتاة الأمريكية الجذابة بَفَصلِه، وكانت فى العشرينيات من عُمرها، أن يطلب منها كتابة بحث عن يوسف إدريس وروايته «البيضاء». ومنذ ذلك الوقت تتداعى المفاجآت والاكتشافات التى تقلبُ تصوراتنا رأسًا على عَقِب نحن الذين عاصرنا يوسف إدريس ونعرف روايته «البيضاء»، فقد كُنّا نظنُّ أن «البيضاء» هو الاسم الرمزى الذى يشير إلى فتاة يونانية هى «سانتى» التى أحبها يوسف إدريس فى شبابه بالفعل، كما نعرف أن «البيضاء» هى تأريخٌ روائيٌّ لفترةٍ حاسمةٍ من شبابه، وهى فترة الخمسينيات الموازية لبداية قيام ثورة يوليو 1952 وتحولاتها الدرامية التى انتهت بها إلى نظامٍ استبدادى ألقى بيوسف إدريس وأقرانه فى السجون التى لم يخرج منها إلا بعد سَفر «سانتى» اليونانية أو «البيضاء»، وكنا نَطمئن إلى هذه المعلومات، ونعرفُ أن يوسف إدريس قضى أحد عشر شهرًا فى السجن نتيجة اشتراكه فى إحدى التنظيمات الشيوعية السرية، وأنه قرر أن يبتعد عن هذه التنظيمات بعد خروجه من السجن، وأن يتفرغ تمامًا للكتابة، فقد أيقنَ – بعد تجربة السجن- أنه يستطيع أن يمارسَ دوره الوطنى بوصفه كاتبًا عبر الكتابة وحدها، وعن طريق المقاومة بالكتابة لصالحِ وطنه وأبنائه. وظل يرى أن هذه المهمة هى المهمة التى تليقُ به بوصفه كاتبًا ومبدعًا، متيقنًا أنه بواسطة الكتابة يستطيع أن يحقق بمقاومة القلم ما لا يستطيع غيره أن يقوم به من أبناء التنظيمات السرية. وقد كانت رواية «البيضاء» وثيقة سردية تُسجِّل أحداث هذه المرحلة من عُمْر يوسف إدريس، ولذلك كان من الطبيعى أن يستجيبَ لدعوةِ «صلاح سالم» وينشرها مُسلسلة فى جريدة «الجمهورية» سنة 1959، وهو العام الذى ألقى فيه «عبد الناصر» بأغلب الشيوعيين المصريين فى السجون، وبعضهم من أصدقاء يوسف إدريس الحَمِيمينِ الذين ظلوا فى المعتقلات الناصرية إلى سنة 1964. وكان من الطبيعى أن يهاجم اليسار المصرى يوسف إدريس على ما رَأَوْهُ سقطةً فادحة منه، وتخليًا كاملًا عن أصدقائهِ الذين لم يُراعِ مأساة وَضْعِهم فى سجون يلقون فيها التعذيب والموت، بينما يتنعم هو بحياة الرفاهية والأمن فى أحضان السُّلطة الناصرية التى جعلته واحدًا من كُتّابها البارزين بعد أن أفرجتْ عنه وأطلقت سراحه؛ لكى يطير حُرًّا فى عالَم الكتابة المصرية. ولكن يوسف إدريس لم يكن على هذه الصورة السلبية التى اتهمه بها كُتّاب اليسار المصرى ونُقّادِه الذين تطرفوا فى الهجوم عليه على نحو ما فعل المرحوم «فاروق عبد القادر» فى كتابه «البحث عن اليقين المراوِغ.. قراءة فى قصص يوسف إدريس»، الذى صدر فى إطار سلسلة كتاب الهلال عن دار «الهلال المصرية»، أغسطس عام 1998. ولكن الحقيقة أن يوسف إدريس لم ينسَ قط أصدقاءَهُ الذين تركهم فى السجون الناصرية، فقد كتب عام 1960 روايته الشهيرة «العسكرى الأسود»، وهى رواية بالغة الإثارة، وتصل إلى الذروة فى إدانة التعذيب البشع الذى يلقاه السُّجناء السياسيون بوجهٍ عام فى السجون المصرية. وبالطبع كان من الطبيعى أن يلجأ يوسف إدريس إلى المناورة واستخدام الحيلة لمخادعة السُّلطات الناصرية القمعية، وقد كانت روايته «العسكرى الأسود» عن زمن مضى مع أنَّها - فى واقعِ الأمر - نوعٌ من التورية السياسية التى تُدينُ المُعاملة الوحشية التى لَقيها، وظل زملاؤه يَلقونها فى السجون الناصرية إلى عام 1964، وربما كانت رواية «العسكرى الأسود» هى أحد براهين يوسف إدريس على أنه يستطيع بوصفه كاتبًا أن يقاوم بالكتابة، وأن يحقق بهذه المقاومة ما لم يَسْتَطِع أن يفعله زملاؤه الذين حَطَّمَهم القمع والعنف الوحشى للاستبداد، إلى الدرجة التى أَوْدَتْ بحياةِ بعضهم فى السجون الناصرية، من أمثال «شُهدى عطية» وغيره، وهو قمع سيظل – بعيدًا عن أى تبرير- بمثابة وصمة عارٍ فى جبين النظام الناصرى مهما كانت إيجابياته وإنجازاته العظيمة التى لا يُنكرها أحد.
ولا يُخايلُنا شَكٌّ فى أن يوسف إدريس هو بطل «البيضاء» وأن «يحيى طه» بطل الرواية هو مجرد قناعٍ ليوسف إدريس نفسه، وأن بقية شخصيات «البيضاء» هى كنايات رمزية لأسماء حقيقية عَرَفها يوسف إدريس فى داخل السجون الناصرية، لأصدقائه من الكُتّاب الذين يمكن أن نَعُدَّ منهم «حسن فؤاد» و«صلاح حافظ» وغيرهم من أصدقاء العالم التَّحتى للتنظيمات التى تَحدَّثت عنها رواية «البيضاء».
وإذا عُدنا إلى رواية «الزوجة المكسيكية» وجدنا كل شيءٍ فيها يُذكِّرنا برواية «البيضاء» ويُحيلُ إليها ابتداءً من بَدْء كل فصلٍ من فصولها الثلاثة والعشرين بِمُقتطَفٍ من رواية «البيضاء»، وذلك على نحوٍ يجعل من رواية «الزوجة المكسيكية» ظِلًّا لرواية «البيضاء» أو كتابة عنها. لكن هذه الكتابة تأتى عبر تقنيات متعددة، وذلك بما يجعل العلاقة بين «الزوجة المكسيكية» و»البيضاء» أشبه بالعلاقة بين ألواحٍ زجاجيةٍ، كُل واحدٍ منها موضوع فوق قرينه، ولكنَّ كل واحدٍ منها يحمل رُسومًا وشخصيات مختلفة عن الآخر. ولذلك لا بد أن نقرأ رواية «الزوجة المكسيكية» على أنها السطحُ الزُّجاجِيُّ الأول الذى نرى من خِلالِهِ السطح الثانى الذى يجعلنا نفهم المعنى الحقيقى لِما وَصف به الدكتور «سعيد شرابى» - أستاذ الدكتور «سامى جميل» - كل ما فعله الدكتور «سامى جميل» من بحثٍ بأنه أقرب إلى جهدٍ يصلح لروايةٍ موازية، عليه أن يكتبها هو وأن يطلق عليها «ظل البيضاء». وأظن أن دافِعه إلى ذلك كان هو الجهد العظيم الذى بذله الدكتور «سامى جميل» من عملٍ موازٍ للأبعاد التاريخية التى تَضُمُّها رواية «البيضاء» ليوسف إدريس.
ولا شك أننا قبل رواية الدكتور إيمان يحيى كُنّا نَطْمَئِن إلى المعلومات التى تضمها رواية «البيضاء» – على سبيل التضمن أو اللزوم- ولا يُخايَلُنا شَكُّ فيها. فإذا برواية «الزوجة المكسيكية» تخبرنا بنقيض ذلك تمامًا. فنكتشفُ أن يوسف إدريس فى هذه الفترة الباكرة من الخمسينيات دخل فى علاقةِ حب مع فتاة مكسيكية، تزوجها بالفعل بعد أن قابلها فى مؤتمر «أنصار السلام» الذى ذهب إليه ضمن الوفد المصرى المُشارِك فى هذا المؤتمر فى «ڤيينا». وكان الوفد يضم عبد الرحمن الشرقاوى وعبد الرحمن الخميسى وكامل البندارى والسيدتينِ سيزا نبراوى وإنجى أفلاطون، بوصفهم مُمثلين لحركة السلام المصرية، وذلك فى ديسمبر 1952. وفى هذا المؤتمر يقع يوسف إدريس فى حب فتاةٍ جذابةٍ ليست عُضوة عادية فى المؤتمر، وإنما ابنة واحدٍ من أبرز زُعماء المؤتمر والداعينَ إليه، هى «روث ريفيرا» التى يراها ويتعلق بها، ويدفعها إلى التعلق به. وتدفع حماسة «روث ريفيرا» لحبها الجديد، إلى محاولة إقناع والِدِها بهذا الحب الذى كان يراه مُستحيلًا، ولكنه يضطر إلى الموافقة على رغبة ابنته كى تمارس التجربة وتتعلم منها. ولكن من هو والد «روث ريفيرا»؟، إنه الفنان التشكيلى العالمى «دييجو ريﭬيرا» من أشهر فنّانى الجداريات فى العالَم الذين ينتمون إلى اليسار، والذى كان زوجًا للفنانة العالمية «فريدا كاهلو» أو كالو»- حسب نطقها بلغتها- التى كانت لا تَقِلُّ شُهرة عنه، والتى أحبَّها «ليون تروتسكى» أثناء إقامته الأخيرة فى المكسيك، هربًا من مطاردة «ستالين» عدوه اللدود الذى نجح فى اغتياله هناك. وكان يشترك مع دييجو ريفيرا فى رئاسة المؤتمر، بابلو بيكاسو ولويس آراجون وبابلو نيرودا وإيليا إهرنبرج وجان بول سارتر وغيرهم من رموز اليسار العالمى فى ذلك الوقت، والذين جلسوا على المنصة الرئيسية أمام الوفود التى جاءت من كل بلدان العالم لتؤكد شعارات: «السلام لكل الشعوب»، «العار لِمُشعِلى الحروب» و«عاش كفاح الشعوب فى كوريا وفيتنام». ويستمع يوسف إدريس مع «روث المكسيكية» إلى الرسالة التى أرسلها الفنان الأمريكى «بول روبنسون» الذى مُنِعَ من السفر إلى المؤتمر، فأرسل رسالة تحيةٍ وتأييدٍ مؤكدًا أن أعظم فَنّانى العالم يقودون حركة السلام ولا يأبهون باضطهاد حكومات بِلدانِهم الرسمية.
وكانت ڤيينا فى ديسمبر 1952 مدينة أشباح لم تتخلص من دمارِ الحرب العالمية الثانية بعد، ويجوب يوسف إدريس مع «روث» الشوارع الخَرِبة لمدينة ڤيينا فى ذلك الوقت البعيد، بعيدًا عن المؤتمر. ويطلبُ يدها من والدها، وبالفعل يوافق والد «روث» الفنان العالمى على زواجهما، مانحًا ابنتهُ الفرصة لكى تُجرِّبَ اختبار حلمها على أرض الواقع. وبالفعل تذهب «روث» و«يحيى طه» (يوسف إدريس) إلى «المَجر» فى صُحبةِ والدها الفنان العالمى، ثم يترُكانه عائدينِ إلى أرض الوطن. وفى البدايةِ تنشغل «روث» باكتشاف القاهرة القديمة، وتتعرفُ على أصدقاء يحيى فى الخلية الشيوعية التى كان يقودها رئيسهم «البارودِى» الذى كان قد خرج من السجن أعمى، ويشهدانِ بداية الصراع بين الديمقراطية والديكتاتورية، والاختيار بين حرية الصحافة ومُصادرة الرأى الآخر، وحيرة بعض فصائل اليسار الموزَّعة بين التأييد والمُعارَضة. ولكن مع مُضِى الأيام تجد «روث» نفسها بلا وظيفةٍ حقيقيةٍ، وهى التى درست العمارة على أعلى المستويات، ويغرق «يحيى طه» (يوسف إدريس) إلى أُذُنيهِ فى مشكلات الخلية التى ينتمى إليها، وفى الكتابة والنشاط العلنى والسِّرِّى، فتتسعُ الهوَّة الفاصلة بينه وبين «روث» الزوجة المكسيكية، وينتهى الأمر بالانفصال الحتمى الذى كان لا بد أن يقع، فالاختلاف الثقافى كان أقوى من عاطفة الحب الحماسية التى لم تمكث سوى أشهُر قليلة، فغادرت «روث» القاهرة مع أُمها عائدة إلى المكسيك، ولم تحتفظ إلا بالمِفتاح الذهبى الذى صنعه لها الزوج الذى ضاع. وهنا تُخايلنا الرواية بمفاجأةٍ أخرى عندما توحِى لنا بأن «روث» قد عادت إلى المكسيك حاملة بذرة جنينٍ سُرعان ما وضعتهُ فى المكسيك. وتمضى السنوات إلى أن تصبح «روث» واحدة من أهم الشخصيات فى بلدها، ولكنها تصاب بالسرطان فى ذروة نشاطها العام، فتوصِى قبل أن تموت بإعادة المِفتاح الذهبى إلى «يحيى» لتؤكد له أنها لا تزال تذكره كَحُلْمٍ جميلٍ قصيرٍ عَبَرَ. وتترك «روث» صفحات الرواية أو نترُكها نحن على مَظنَّةِ أنها قد انجبت من «يحيى» ابنا، ثمرة لزواجهما العابر. وتنتهى قصة الحب التى تقوم عليها العلاقة التخييلية للرواية التى تنتهى، ونحن فى برزخٍ يختلطُ فيه الخيالُ بالواقعِ، والواقع بالخيال، ولا نعرف الحد الفاصل بينهما، ولا حتى نعرف التمييز بين ما هو خيالى وما هو حقيقى.
المؤكد أن يوسف إدريس قد ذهب إلى ڤيينا ليحضر مؤتمر «أنصار السلام» مع أعضاء الوفد المصرى الذين نعرفُ أسماءهم فى الرواية بالفعل، ومن المؤكد أنه كان هناك مؤتمر للسلام فى ڤيينا فى ديسمبر 1952 بالفعل، ومن المؤكد كذلك أن يوسف إدريس قد عاد إلى مصر مع بقية الوفد وعاش صراعًا عاصفًا بين الهوى والواجب، والالتزم بالمجموعة الحِزبية وعلى رأسها البارودى الأعمى، والخروج على هذه المجموعة التى تحوَّلت إلى مجموعةٍ مُرتبكة الهدف، يقودها أعمى لا يعرف الاتجاه الصائب من الاتجاه الخاطِئ. وأُضيفُ إلى ذلك حيرته أمام تقلبات المجموعة الشابة من الضباط الأحرار الذين انقسموا فيما بينهم حول الالتزام بالديمقراطية أو الاستغناء عنها من أجل استبدادٍ عسكرى لا يسمح بالتعددية أو التنوع الحِزبى فى سبيل نوعٍ من الاتحاد والنظام والعمل الذى يعنى استبداد الصوت الواحد الذى ينصاعُ إليه الجميع، وإلا نالهم العقاب ابتداء من السجن إلى الإلغاء المادى. وهو الصراع الذى انتهى بانتصار الديكتاتورية على الديمقراطية فى أزمة مارس 1954. ومن المؤكد – أخيرًا – أن يوسف إدريس قد دخل السجن وخرج منه بعد أقل من عامٍ بشهر واحد، مُقرِّرًا الابتعاد عن الخلايا السرية والعمل فى العلن بعد أن عَلَّمته التجربة أن مهمة الكاتب ليست الكتابة من تحت الأرض، فى خلايا سرِّيَّة، وإنما الكتابة فى العلن ومواجهة الاستبداد بالقلم، إما بشكل مباشر، أو غير مباشر، فما أكثر أنواع المقاومة بالحيلة! ولكن هل تزوج «يحيى طه» (يوسف إدريس) امرأة مكسيكية بالفعل وأتى بها إلى القاهرة وعاش معها لفترة؟ وهل اعترف بذلك للمستشرقةِ الروسية عندما قال لها إن رواية «البيضاء» كتبها استلهامًا لتجربة حُبٍّ قصيرةٍ مع فتاةٍ مكسيكية؟ الأمر ممكن. الطريف أننى أعرفُ هذه المستشرقة الروسية، فهى الدكتورة ڤاليريا كيربتشينكو - رحمها الله - فقد توفيت منذ سنوات، وقد كانت صديقة عزيزة لى، وهى والدة السفير الروسى الحالى فى القاهرة. ولم أسمع منها مرة واحدة شيئًا عن هذه القصة الغريبة فى كل مقابلاتنا التى امتدت لسنوات، وكنتُ أساعدها فى اختيار وترجمة مختارات من كتابة الستينيات للشباب المتمرد على كتابة الخمسينيات والأربعينيات. وما أكثر ما جلسنا وتناقشنا، حتى عن يوسف إدريس، الذى حصلت على درجة الدكتوراه فى الأدب عن كتاباته الإبداعية. كما أعرفُ أيضًا أن يوسف إدريس تزوَّج سنة 1957، وعَرَفتُ زَوجهُ السيدة «رجاء الرفاعى»، وشاركتُ يوسف إدريس - رحمه الله - فى ألمِهِ حين فَقَدَ أحد أبنائه بسبب الإدمان، وراقبتُ معه موهبة ابنته «نسمة» الأدبية وهى تتفتحُ كالبُرْعُمِ. ولكن ما علاقة هذا كله برواية «الزوجة المكسيكية»؟! إن الزواج المدنى الذى ألحَّ عليه الأب ريفيرا ممكن عقلًا على سبيل الاحتمال. وقد عَلَّمنا جدنا الأكبر أرسطو أن الفن - ومنه الأدب بعامة والقص بخاصة - لا يتحدثُ عن الواقعِ، إنما يتحدث عن المُمكنِ، أو المُحتمل بالضرورة. ورواية الدكتور إيمان يحيى ليست رواية واقعية بالمعنى الذى اعتدنا عليه، وإنما هى رواية حداثية، تمضى بنا من نقطة الإمكان أو الاحتمال التى تَحدَّث عنها أرسطو لتمضى بها إلى آفاقٍ لا يعرفها سوى خيال الكاتب الذى يؤمن بنقيض ما يراه أستاذه الدكتور «سعيد شرابى» الذى ظل يؤمن بأن كل ما فعله تلميذه الدكتور «سامى جميل» إنما هو خارج النقد الأدبى، وأنه قد يصلح مادة لرواية يكتبها تلميذه «سامى جميل»، وهو ما يُنهِى المناقشة بينهما قُرب نهاية الرواية، فيقول له بِحسمِ الأستاذ: «اسمعْ، ما قمتَ به ليس بحثًا ولا نقدًا، قد يصلح للرواية، اكتُبْها وخلصنا من شَطَطِكَ. اطلقْ عليها «ظل البيضاء»». ولكن ضمير الكاتب الحداثى ووعيه فى شخصية «سامى جميل» يدفعه إلى النقيض، فيخلو إلى نفسه ويبدأ فى الكتابة واعدًا القارئ أنه سوف يقول له كل شيءٍ على نحو ما تخيله عن قصة حب يوسف إدريس الأولى، وذلك على نحوٍ يضعنا فى عالم من التخييل الذى يسمح لنا بالدخول إليه على شريطة أن لا نسأل هل هذا حَدَثَ أم لم يحدث؟ فليس ذلك هو المهم. فالأهم هو السؤال عن إمكان أن تكون رواية «الزوجة المكسيكية» رواية من الروايات الشارحة لرواية غيرها، ولماذا لا نتعامل مع رواية «الزوجة المكسيكية» على أنها قص شارح Metafiction أو بوصفها كتابةً على كتابة، أو نَصًّا على نص؟!
وأعتقدُ أننا لو نظرنا إلى رواية «الزوجة المكسيكية» من هذا المنظور، وجدنا أحد أسباب الإمتاع الذى تترُكُه فينا هذه الرواية بعد قراءتها. وقد قرأتُها أكثر مِن مرةٍ، وكُلَّما عاودتُ قراءتها، كان يتزايد إعجابى بها. و (للتحليل بقية).
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.