بعد إعلان البوسنة والهرسك استقلالها عن يوجوسلافيا عام 1992، بدأ الصراع المسلح الذى استمر حتى عام 1995 المستولد بتأجيج المواجهات والصدمات بين الجماعات العرقية الثلاث، وهى الصرب، والكروات، ومسلمو البوسنة، حيث تبدى صراعًا مشحونًا بالمجازر الوحشية، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية المفزعة، وتهجير السكان وتشتيتهم، فى ظل غياب آليات التحرك الدولى وتغييبها عن المشهد الكارثى ثلاث سنوات، وهو ما يفتح بوابة التأويلات الممكنة بحثًا عن البعد الخفى المريب لاستمرار تلك الكارثة، وتحديدًا فى ظل التزامن مع صدور إعلان الأممالمتحدة لحقوق الأقليات فى عام 1992 الضامن لحقوق أقليات قومية، وعرقية، ودينية، ولغوية، وكان الرهان المعقود أن تتبدى البوسنة والهرسك دولة غير قادرة على تأكيد حق التنوع الإنساني، والنهوض به وحمايته، عندئذ بدأ التحرك الدولى عسكريًا الذى انتهى باتفاقية دايتون، التى أبرمت برعاية أمريكية عام 1995، ووقعها معها كل من فرنسا، وبريطانيا، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، ويوجوسلافيا، والبوسنة والهرسك، وكرواتيا، ثم صدر دستور عام 1995 الذى شابه العوار بافتقاده الشرعية، حيث لم تشارك أطياف الشعب فى وضعه، وأيضًا دون استفتاء الشعب عليه، وكذلك دون مصادقة من البرلمان، ودون الاعتداد بحجية أنه ليست ثمة دستورية من غير مساندة عريضة من الإرادة العامة للشعب، التى تمارس بذلك مسئولية دورها فى إدارة مجتمعها، انطلاقًا من إدراك قانونى يرتكز على مجموع الحقوق والواجبات المدنية منها والسياسية، وإدراك سياسى يرتكز على مبدأ الشرعية السياسية، الذى يقوم على التنظيم المجتمعي، ويرتبط تحقيقه بوعى الشعب بوجوده السياسي. لا شك أن غياب هذه الحزمة الأساسية من الحقوق يعنى أن ثمة سلطة فوق الشعب قد فرضت هذا الدستور عليه، والواقع أن هذا الدستور قد صدر تنفيذًا لأحد بنود هذه الاتفاقية الدولية المعروفة باسم اتفاقية دايتون. إننا بالأساس نعيد قراءة المشهد من منظور ما ينعطف به من تحول جذرى طرأ على سيادة الدول وحقوق شعوبها، بتأثير جموح سلطة دول رعاة العولمة، بما أصبحت عليه من قوة ضاغطة متحكمة، تختطف القضايا المجتمعية من سياقاتها الوطنية، وتعولمها بآلياتها وبرامجها المستجدة، من خلال سياسات وإجراءات عملية، لا يخضع فضاء نشاطها لحدود الأمم والأوطان، والدول وحقوقها؛ إذ فى ظل العولمة لم تعد تشكل الجغرافيا المحدد الرئيسى للحياة الاجتماعية والثقافية، وكذلك لا تستطيع البلدان أن تحصن نفسها من آثار القرارات والإجراءات التى يجرى ضخها عبر شرايين المؤسسات المتعددة الجنسيات بامتداد شبكاتها العالمية العابرة للقوميات، النافذة قوة واقتدارًا على تحرير سيولة الأموال، والسلع، والسلطة، والناس. إن دول رعاة العولمة لا تسمح للبلدان بأن تعيد صياغة ذاتها بذاتها فى مواجهة ما يدهمها من أزمات، سواء أكانت أزمات ذاتية المنشأ، أم أزمات قد صدرت إليها، استرصادًا لوضع مبتغى؛ بل إن سدنة العولمة يفرضون على بلدان العالم خططهم، وقراراتهم، ومصالحهم، وهم أيضًا يشرعون للشعوب الدساتير الفاقدة الشرعية، ويلزمونهم بها، ويتبدى دستور البوسنة والهرسك نموذجًا لتحويل الحقوق الدستورية للمواطنين إلى مهزلة، وقد شهد هذا الدستور المغتصب لحقوق المواطنين قدرًا كبيرًا من الانتقادات بشأن شرعيته على المستويات جميعًا؛ إذ انطلاقًا من استراتيجية التفكيك، جرى تقسيم البوسنة والهرسك إلى كيانين، هما اتحاد منظمات البوسنة والهرسك، وجمهورية الصرب، ولكل كيان برلمان خاص، وأيضًا دستور خاص، بشرط توافقه مع هذا الدستور، كما يضم الكيانان مناطق للحكم الذاتي، وسلطات فيدرالية، وهناك عشر سلطات إقليمية لكل منها قوة شرطة، وسلطات خاصة بها، ويدير هذه التقسيمات المعقدة مائة وستون وزيرًا، والرئاسة مؤلفة من ثلاثة أعضاء، عضو عن كل مجموعة عرقية رئيسية. لقد كرس الدستور التقسيم والتفتيت، والتسيد العرقي، بدلاً من بلورة شعور الانتماء الوطنى المتسامى بالمواطنة فوق الاختلاف، وتعزيز الحريات الإيجابية الفردية بإدخال المشكلات العرقية والدينية دائرة الخاص، التى يحكمها الضمير الفردي، لتكتسب الدولة حيادها بالنسبة إلى الانتماءات لكل سدنة العولمة الذين صاغوا الدستور ففرضوا ما يهمهم من النصوص الدستورية التى تستهدف تدويل تحرير التجارة، والاقتصاد المعولم، وعبور الاستثمارات للحدود، حيث نص الدستور على ضرورة تشجيع اقتصاد السوق، وكأن التاريخ المستقبلى قد انهارت كل رهاناته، وأصبح معقودًا على السوق وحدها، كما تتجلى استباحة العالم لتمرير العولمة، فيما نص عليه الدستور أيضًا من حتمية حرية الحركة فى كل أنحاء البوسنة والهرسك للخدمات، ورأس المال، والأفراد وأنه على البوسنة والهرسك والكيانات عدم اعتراض سبيل الحرية الكاملة لحركة الأفراد، والبضائع، والخدمات، ورأس المال، فى كل أنحاء البوسنة والهرسك، ولا يضع أى كيان قيودًا على الحدود بين الكيانات، وذلك ما حذر منه الاقتصادى الفرنسى الشهير آلان مينك، فى كتابه رأسمالية المساهمة من أن قواعد السوق راحت تخترق مساحات أوسع من الحيز الاجتماعي، عندئذ يتحول المجتمع, بالرضا أو الإكراه, إلى مجتمع سوق. لا شك أن ثنائية الاستهلاك والأسواق الحرة المنفلتة هى محض آلية اقتصادية متوحشة، لا تستطيع أن تنتج إلا نفسها، ترتدى قناع النمو والتقدم، وتتغنى بالجدة والتنوع، وهى على الحقيقة استلاب للمجتمعات استهلاكيًا، بأن أقصت كل قيد وقاعدة وتدخل سياسى للدولة نهائيًا، بوصفها عائقًا للنمو والازدهار الاقتصادي، فى حين أن أهم أهدافها تحقيق الخصخصة، وتحرير التجارة، وخفض الإنفاق الاجتماعي، وتعزيز المسئولية الفردية، وأصولية السوق الممتنعة عن أى ضوابط حاكمة. والأشد جذبًا للانتباه أن الدستور قد تضمن مرفقات إضافية لخمس عشرة اتفاقية دولية، منها على سبيل المثال اتفاقية 1989 فى شأن حقوق الطفل، التى رفضت الولاياتالمتحدة التوقيع عليها؛ وذلك لغياب الحقوق عن مستحقيها؛ إذ لديها (17 ) مليون طفل دون أب وتحت خط الفقر، وغدت بالقسر والاستتباع على البوسنة والهرسك مشمولة بالنفاذ. تلك صورة لاغتيال الحقوق، وامتطاء الاتجار بالخير العام!. إن المؤلف الأمريكى جورج ريتز، صاحب أضخم دراسة بعنوان، العولمة نص أساس، يطرح نبوءة تؤكد: أن العولمة سوف تستقر، ومن المحتمل جدًا أن تنمو وتتسع، إذ تتبدى هذه النبوءة الأكثر أمانًا داخل الاقتصاد الذى تعولم بأسرع من أى مظهر آخر من مظاهر العالم الاجتماعي. ترى هل يمكن قبول تلك النبوءة؟ لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى