الأخ العزيز والصحفى المرموق صاحب الشان والشنشان فى عالم صاحبة الجلالة الصحافة.. الذى اسمه صلاح منتصر وثانى رئيس لى فى قسم التحقيقات الصحفية عندما دخلت الأهرام لأول مرة فى عام 1959 بعد تخرجى من قسم الصحافة جامعة القاهرة بأيام.. بعد القصاص المعروف إسماعيل الحبروك أول رئيس لقسم التحقيقات تحت رئاسة تحرير الأستاذ محمد حسنين هيكل.. والذى قال لى بالحرف الواحد إسماعيل الحبروك وليس الأستاذ: أنت لا تصلح أن تكون صحفيا.. مكانك كاتب يومية فى أرشيف وزارة الأوقاف كمان.. وليس فى الأهرام.. تصوروا؟! ومشيت يومها أبكى بالدموع فى شارع شريف باشا.. حتى كفف دمعى الصديق العزيز فيما بعد صلاح منتصر الذى أجلسه الأستاذ هيكل على مقعد رئيس قسم التحقيقات بعد إسماعيل الحبروك.. والذى قال لى بالحرف الواحد: الكبوة تصنع بطلا.. «قم يا بطل ونفض هدومك.. ويا للا نشتغل صحافة».. تصوروا كان ذلك فى الستينيات من القرن العشرين يعنى القرن الماضى وها هى الأيام تدور ونحن ندور معها ونلف مثل لعبة «النحلة والدبور» التى يلعبها الأولاد الصغار.. ويدفع إلىّ رفيق الطريق كتابه الرائع: شهادتى على عصر عبد الناصر.. ملحوظة من عندى: لم يكن رفيق الطريق صلاح منتصر عندما تولى رئاسة قسم التحقيقات فى عام 1959 بأمر مباشر من الأستاذ محمد حسنين هيكل.. رجلا كبيرا طاعنا فى السن.. بل كان شابا مثلنا.. ظريفا لطيفا خفيفا، ملامحه مثل ملامحنا الشابة.. بل إن بعضا من المحررين والمحررات أيامها كانوا يفوقونه سنا وكبرا! *** وأستأذن القارئ العزيز فى أن أفتح أمامه صفحات كتاب رفيق الطريق: شهادتى على عصر عبد الناصر.. فهو الأحق والأجدر بالقراءة والكتابة والتحليل ثم نعود إلى حديث الذكريات.. ولقد استفزنى ليس فى الكلمة أى خطأ حديث العزيز صلاح منتصر عن الوحدة مع سوريا وعن كلام الزعيم السورى شكرى القوتلى للزعيم جمال عبد الناصر داخل قصر القبة فى القاهرة قبل اعلان الوحدة بين مصر وسوريا.. وتحت عنوان العبارة الشهيرة لشكرى القوتلى.. قال صلاح منتصر: لم تستمر مباحثات الوحدة طويلا ففى أول فبراير جاء الرئيس السورى شكرى القوتلى للقاء عبد الناصر، وفى احتفال جرى فى قصر القبة تم فيه توقيع اتفاق الوحدة بين مصر وسوريا، كانت الابتسامات على الوجوه. وبعد أن وقع الرئيس عبد الناصر الاتفاق وقد سبقه فى التوقيع شكرى القوتلى الذى بتوقيعه تنازل لعبد الناصر عن رئاسة سوريا، التفت القوتلى إلى عبد الناصر وقال له بلهجته العامية السورية وبطريقته الطريفة المشهورة (النص التالى أنقله من مقال بصراحة للأستاذ محمد حسنين هيكل فى الأهرام بتاريخ 27 أكتوبر 1961) شكرى القوتلى: هيه.. أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس؟ أنت أخذت شعبا يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون فى المائة من ناسه أنهم زعماء. ويعتقد 25 فى المائة منهم أنهم أنبياء بينما يعتقد عشرة فى المائة على الأقل أنهم آلهة. أخذت يا سيادة الرئيس ناسا فيهم من يعبد الله، وفيهم من يعبد النار، وفيهم من يعبد الشيطان، وفيهم من يعبد... وقال كلمة تتعلق بالمرأة لا يجوز وضعها على الورق.. وألف علامة تعجب واستفهام؟! ونظر جمال عبد الناصر إلى شكرى القوتلى وقال له ضاحكا: لماذا لم تقل لى ذلك قبل أن أوقع الاتفاق بإمضائي؟ .. وضعوا هنا ألف علامة استفهام وتعجب!.. وأنا بدورى أقدم أسفى للقارئ لإعادة نشر هذا المقطع من مقال الأستاذ هيكل بصراحة! *** ولأن الصحافة فى الأصل وفى الأساس وفى قواميس لغة الصحافة بكل لغات الأرض.. هى مهنة البحث عن المتاعب.. لقد بحثت ونقبت فى كتاب العزيز صلاح منتصر عما هو عجيب وغريب وخارج عن المألوف.. ويا لهول ما وجدت! أول شيء وجدته هو حديث الأستاذ محمد حسنين هيكل وربما لأول مرة عن أخطاء عبد الناصر.. فماذا يقول الصديق يا ترى عن أخطاء أعز الناس لديه؟ هو يقول: 1 إن عبد الناصر وقع فى خطأ الاعتماد على مسلمات قديمة سابقة تكونت لديه فى مراحل متقدمة ولم يعد إلى مراجعتها ما بين وقت وآخر لكى يتأكد من استمرار صحتها وصدقها. 2 إن عبد الناصر قبل بتجربة الوحدة مع سوريا من نفس الأوضاع التى كانت قائمة فى سوريا عند إعلان الوحدة. وهكذا فإن التناقضات التى ساعدت على إنهاء الوجود المستقل للدولة السورية ظلت هى نفس العوامل المهددة لدولة الوحدة بعد قيامها. فمجموعات الضباط والأحزاب السياسية التى عجزت عن استبقاء الدولة السورية حتى تتهيأ الظروف الموضوعية للوحدة بقيت هى نفسها بكل تناقضاتها هى العناصر الحاكمة فى دمشق بعد دولة الوحدة. ولم يكن مجرد قيام الجمهورية العربية المتحدة قادرا بالفعل أو بالواقع على فتح صفحة جديدة فى التاريخ، وإنما ظلت الصفحة التى فتحت بعد الوحدة اتصالا منطقيا بالسياق الطبيعى مع الصفحة التى سبقتها. 3 إن التفكير والعمل وفق مدرسة «ليدل هارت» التى تقول بالاختراق والتقدم وتطويق الجيوب فى المؤخرة، وهو الأسلوب الذى اتبعه عبد الناصر فى كثير من المواقف، كان لابد أن يعقبه تطهير لهذه الجيوب التى تركت فى الخلف، خصوصا إذا كانت هذه الجيوب واقعة بالجغرافيا بعيدا عن المركز، وكان هذا ما لم يحدث بالضبط مع تجربة الوحدة. فقد تقدم بسرعة واخترق وطوق وترك جيوبا كبيرة لما بعد، ولم يعد إليها كى يعالج خطرها، بل راح يواصل تقدمه وهى فى مؤخرة خطوطه تؤدى دورها وتؤثر بالتأكيد على حركته. 4 إن واحدة من أهم المشاكل التى واجهها فى سوريا وإلى حد كبير فى مصر هى مشكلة أى نظام يسمح لآماله أن تتعدى وسائله. وبهذا فإنه يجد نفسه معتمدا فى دفع التطور على أجهزة الدولة فإذا هى تقوم بدور لم تتهيأ له، وقد حدث شيء من ذلك فى سوريا وتصرف عدد من الضباط المصريين الذين أحاطوا بالمشير عبد الحكيم عامر وبقيادته فى دمشق فى قضايا لم يتهيأوا لها من قبل. 5 إن جمال عبد الناصر وقع فى محظور يقع فيه كثيرون غيره من الثوريين، إذ يعتمدون على الجماهير بطريقة تكاد تكون غيبية، ناسين أن الجماهير مهما كانت حماستها لا تستطيع أن تفعل شيئا أمام قوى السلاح. كما أن هناك فترات فى تاريخ الشعوب يحدث فيها أن تتمكن قلة من المغامرين من أن تجر وراءها كتلا من الغافلين. 6 إن جمال عبد الناصر أحب سوريا على وجه اليقين، لكنه لم يستطع النفاذ إلى قلب تركيبتها الخاصة، ومن ثم فإنه وإن وصل إلى عواطفها لم يتمكن من التخاطب مع عقلها، وربما قاس فى دمشق بمعيار ما كان يعرفه فى القاهرة. ولم تكن أداة القيادة صالحة للحالتين، وربما أيضا أن حركة المدن وجماهيرها أخفت عنه حركة الصحراء وقبائلها وعشائرها. *** وهذا نص ما كتبه هيكل فى إحدى المرات القليلة التى نسب فيها إلى عبد الناصر ارتكابه أخطاء فى قضية ما. ولنترك للأستاذ الكبير صلاح منتصر ثانى رئيس لى فى قسم التحقيقات قبل أن يجيء سيد التحقيق فى مصر والعالم العربى الذى اسمه صلاح هلال.. يحكى تجربته الشخصية مع عبد الناصر فى كتابه الرائع.. فماذا يقول؟ هو يقول هنا بالحرف الواحد: كانت لسنوات تربيتى فى مدينة دمياط تأثيرها الكبير على تقديرى الشديد للقطاع الخاص وكفاح أفراده فى العمل الشريف الذى يؤدونه، فقد تربيت فى مدينة عبارة عن خلية نشاط وعمل فى صناعات الأثاث والأحذية والألبان والأسماك والأرز والتجارة والسياحة (مصيف رأس البر) وفى أسرة متواضعة تعمل فى صناعة الحلويات ومن معمل صغير راح ينمو حتى أصبح معملا من ثلاثة أدوار وعربات تجوب الدلتا حاملة انتاجها محققة ربحها الشريف. آخر صورة لعبدالناصر عند توديعه أمير الكويت فى مطار القاهرة ولم تكن الأسرة يقول صلاح منتصر إلا نموذجا لآلاف الأسر فى كل مصر، ومن عاش سنوات الحرب العالمية الثانية بين 39 و1945 يتذكر كيف أنه رغم إغلاق موانى الاستيراد بسبب الحرب إلا أننا لم نشعر بالحرمان من أى سلعة باستثناء الجاز أو الكيروسين الذى كان أساس الإضاءة بلمبات الجاز وتشغيل «بوابير الجاز» الوسيلة الأساسية للطبخ وتسخين الماء فأصبح بيعه بكوبونات. غير ذلك لم نحرم من أى شيء وقد استطاع القطاع الخاص أن يعوض بجهده نقص لمبات الجاز والأكواب الزجاجية التى كنا نستوردها ونقص السكر بإنتاج ما عرف بالجلوكوز وهى مادة سكرية تنتج من البطاطس. ومن يقرأ كتاب الأستاذ عمر طاهر الذى اسماه «صنايعية مصر» يستطيع أن يعرف دور القطاع الخاص فى مصر قديما وهو دور لم يختف فقد كتب عمر طاهر عن الراحلين بينما فى خريطة الأنشطة المختلفة حاليا كثيرون أقاموا عشرات المدن والمصانع وعمروا صحارى كانت فى شرم الشيخ والغردقة والساحل الشمالى حولوها إلى أجمل البقاع. ولهذا لم أستطع يقول صلاح منتصر أن أجد سببا مقنعا للتأميمات التى صحونا عليها فى 20 يوليو 61 وأن يذهب أصحاب المصانع هذا الصباح إلى مصانعهم فيجدونها محاصرة بالدبابات والحسابات فى البنوك تم وضع اليد عليها وحتى السيارة التى ذهب بها صاحب المصنع إلى مصنعه لم يعد يستطيع أن يستقلها. وكان تأثرى كبيرا بالفنان محمد فوزى الذى مازلنا نعيش على أغانيه وأفلامه وقد جمع كل ما كسب لإنشاء أول شركة فى الوطن العربى للإسطوانات من جهده وتعبه، لكنهم لم يرحموه واستولوا بالقوة على ثمرة كفاحه فأصيب بمرض نادر حار فيه الأطباء وما زالوا وأطلقوا عليه فيما بعد مرض «محمد فوزى».. وانخفض وزنه إلى 27 كيلو جراما ومات فى حسرة أصابت آخرين كثيرين جرى تأميمهم! *** ثم وقع الزلزال الذى هز ودمر كيان مصر والأمة العربية كلها وأرجع بندول ساعتها إلى العصور الوسطى.. زلزال اسمه حرب يونيو 1967.. ولكن ذلك حديث آخر!