أحب قبل أن أتحدث مع الدكتورة الوزيرة إيناس عبدالدايم هذه المرة عن أرقى الفنون التى لها التأثير الأكبر على الفرد وهى الموسيقى أن أتحدث معها عن مشروع ضخم وعظيم لو استطاعت الدكتورة الوزيرة أن تحققه فسوف يخلدها فى أذهان الناس وقلوبهم خلود الآبدين، وهذا المشروع هو بناء أوبرا حقيقية تعوضنا عن الأوبرا الجميلة التى كان يزدان بها ميدان إبراهيم باشا وكنا نفخر بوجودها فهى لا تختلف عن دور الأوبرا التى نشاهدها فى العواصم الأوروبية. وكانت تأتى إليها لتعرض فنها الرفيع المسرحى والموسيقى والأوبرالى إلى أن حرقها السفلة من الناس. وأنا أعلم مدى صعوبة هذا المطلب وأن على الدكتورة الوزيرة أن تقاتل بشدة وأنا أعلم أنها قادرة على التغلب على المعارضين لوجود تلك الأبنية التى لا معنى لها والتى يسمونها الأوبرا والتى تحيط بها الأسوار وتنافسها فى الوجود بعض الأبنية الادارية الأخرى. سوف يرى البعض الاكتفاء بما هو موجود فى حين أن ما هو موجود كما أشرت ليس مثل ما نراه فى باريس أو فيينا أو روما وغيرها من دور الأوبرا الحقيقية ذات الشكل الكلاسيكى المتشابه، وهناك يرى إن لم يكن قد قرر بناء دار الأوبرا فى العاصمة.. تجاهلا لوجودها فى القاهرة العريقة التى بها التراث الحضارى الإسلامى والقبطى. لابد للدكتورة الوزيرة الوقوف فى وجه هؤلاء والدفاع عن حتمية وجود هذه الأوبرا. فى القاهرة على أحدث الإمكانات العالمية حيث نجد فيها قاعة ضخمة للمسرح تحيط بها الشرفات الفاخرة وخشبة المسرح المتسعة، حيث آليات تغيير المناظر وأجهزة الإضاءة الحديثة والخلفيات السينمائية التى توهم بالحركة فى المسرحيات والأوبرات الضخمة، وكذلك الباليهات الحديثة التى يملأ الراقصون فيها أرجاء المسرح وتقتضى حركتهم مساحات كبيرة. أقترح أن يكون مكان هذه الأوبرا الجديدة فى وسط البلد حيث توجد الآن منطقة واسعة خالية وهى منطقة مربع ماسبيرو، حيث يمكن أيضا بناء مسارح ودور سينما وفندق أو اثنين فاخرة وإعادة الحياة فى نفس الوقت للتليفزيون. ويجرنا الحديث عن دار الأوبرا التى نرجوها نحو الموضوع الذى يجب أن نتحدث فيه وهو فنون الموسيقى والمعاهد التى تحتويها أكاديمية الفنون مثل الكونسير فاتوار ومعهد الباليه ومعهد الموسيقى العربية. والحديث عن الموسيقى يجعلنى أتذكر بعض الذكريات الجميلة عندما كان فى ميدان التحرير بناء ضخم بحديقة واسعة وذلك مكان الفندق الألمانى الجديد ما يعرف ب»مكتبة الفن»، فكانت هناك بتلك المكتبة قاعة استماع للموسيقى الكلاسيكية يشرف عليها موظف لديه ثقافة موسيقية عالية ويقوم بإذاعة العمل الموسيقى حسب أسبقية تقديم الاستمارة التى نحدد فيها اسم العمل واسم الموسيقار. وكان يقوم بتقديم ما نطلبه من سماع الأعمال الكلاسيكية بطريقة مذيعى البرنامج الثانى فى ذلك الوقت، حيث يتحدث عن نوع العمل ومقامه الموسيقى واسم مؤلفه بالطبع. وكان بالقاعة مكبر صوت يحيط به إطار خشبى وبه شبكة ينساب من خلالها الصوت عاليا. وأذكر عندما كان أحدنا يطلب السيمفونية التاسعة وهى السيمفونية الكورالية لبيتهوفن وسميت هكذا لأن الحركة الأخيرة تتضمن تقديم قصيدة «الفرح» للشاعر الألمانى شيلر بشكل أوبرالى كورالى. وقد قام الكاتب الكبير توفيق الحكيم بشرح انطباعاته عن هذه السيمفونية العظيمة وترجمة قصيدة «الفرح»، وذلك فى روايته البديعة «عصفور من الشرق» ويقودنا الكلام إلى رجاء من الدكتورة الوزيرة وهو جمع كل الشروح والتحليلات التى كان يقوم بتقديمها الدكتور حسين فوزى من خلال «البرنامج الثانى»- بالإذاعة وتدوينها وطبعها فى كتاب يستفيد منه كل عشاق الموسيقى الكلاسيكية فى العالم العربى. وكنا فى قاعة الاستماع فى مكتبة الفن نتسابق على الجلوس ملتصقين بمكبر الصوت وكان أحدنا يحتضن خشب المكبر ويسند رأسه عليه ويهيم مع أنغام سيد الموسيقيين وهى تنساب منه فتمتزج بروحه الهائمة فى ملكوت بيتهوڤن ونحن نحسده على قربه من الجهاز. وبالطبع فإنك تعلمين يا عازفة الفلوت الماهرة تأثير الموسيقى على عاشقها. ولا أريد أن أطيل فى هذا المضمار فإنك تعلمين فيه أكثر مما أعلم ولكن بما أنك أبرع من يعزف على الفلوت، فلماذا لم نسمع عمن يقاربك فى مصر فى هذا المقام العالى من العزف، وليس هناك من برع فى العزف على آلة البيانو مثل العازف رمزى يسى الذى وصل إلى العالمية وبهرنى عندما استمعت إلى عزفه على البيانو فى كونشترو خشادور يان. هل تجيبنى الدكتورة الوزيرة عن السبب ولماذا ليس عندنا حتى الآن عازف كمان فى مرتبة رمزى يسى يبرع فى تقديم أعمال الموسيقار العظيم مندلسون للكمان؟ نحن عندنا الكونسيرفاتوار ولم يخرج سوى عازفين لم يصلا إلى العالمية. وكذلك من أمر قادة الأوركسترا فإن معظم من تخرجوا فى المعهد كانت قياداتهم تحتاج إلى الدقة والعمق، لقد قرأت أن قائد الأوركسترا هابانيك مثلا قام بإجراء بروفات للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن ثلاث سنوات طوال فى فترات متقطعة حتى تم صقلها. وإلى جانب براعة فرانز ليست الموسيقية الأسطورية، فقد أصر على حضور بروفات مع كبار قادة الأوركسترا من أجل الدراسة، ولذلك استطاع الجمع بين دقة المايسترو هابانيك وحرارة أداء الموسيقار برليوز الذى يمثل أعظم فضائل المدرسة الفرنسية فى القيادة التى فاقت المدرسة الألمانية بلا جدال. على أن الطريقة التى اتبعها فى القيادة كانت من سماته الخاصة، كفنه البارع جدا فى عزف البيانو سواء بسواء. وكان ليست يصر على إحاطة أوركستراه بكل الدقائق الفنية حتى يستطيع خلال الحفلات تركيز انتباهه تقاطيع الجمل الموسيقية وقسمات الشكل تاركا للفنانين المنفردين العناية بأدوارهم. ونلخص كل نظريات فرانز ليست فى قاعدة واحدة، فقد أراد أن يبدو قائد الأوركسترا وكأنه ظاهريا زائدا على الحاجة. وبالطبع فإنك تعرفين لكونك درست الموسيقى دراسة واعية نظريا وعمليا أن فرانز ليست هو أول قائد أوركسترا يوضح بالإيماء وتعابير الوجه قسمات الجمل الموسيقية والرفع والخفض فى النبرات وكل ما هو ضرورى للأداء النابض بالحياة. وقد اقتدى فاجنر به وبزغت من بين أعضاء الفرقة الموسيقية أول مجموعة من القادرين على حمل عصا القيادة بجدارة وبراعة. وكان فاجنر من بين المفتونين الذين راقبوا البروفات والحفلات، حيث يقودها هذا الفنان العبقرى ولم تغب عن عينيه أى شاردة. لقد كان وجهه معبرا وله مواد تشخيصية اعترف أعظم الممثلين بأنها من الظواهر النادرة. (الموسيقى فى الحضارة الغربية تأليف بول هنرى لانج ترجمة د. أحمد حمدى محمود). لمزيد من مقالات مصطفى محرم