منذ ثلاثة أسابيع افتقدت صديقا له فى القلب حضور متجدد. تركت القاهرة لعلى أغسل أحزانى فى مياه البحر. لاحظت أن صورا متعددة للقاءاتى مع العلامة قدرى حفنى تطل دائما تحت جفوني. لاحظت ارتباك خطواتى فهى تسرع او تبطئ كأن هناك من يتحكم فيها غيري. وعلى الرغم من أنى أتكئ على عصا إلا أنى حملتها من منتصفها؛ لتصطدم قدمى ببلاط مدبب على رصيف سوق مارينا لأقع على جانبى الأيسر, وبين صرخات ألم يفوق الاحتمال؛ حملنى المارة إلى بيتى لأتصل بأكرم غباشى مدير المركز الطبى بمارينا الذى أرسل سيارة إسعاف لتحملنى إلى مستشفى العلمين ليستقبلنى الطبيب الشاب أحمد عبد اللطيف لأدخل إلى نفق الأشعة المقطعية التى كشفت كسرا فاضحا فى رأس مفصل الفخذ. تذكرت انى رأيت مثل هذا الكسر فى فخذ طنط جانيت صاحبة البنسيون الذى أقمت به لسنوات وكان من أجرى لها جراحة تغيير المفصل هو صديقى عالم جراحة العظام الأمريكى الجنسية الشرقاوى الجذور محمد نور. استمعت يومها إلى شرحه للجراحة. وطمأننى أن السيدة جانيت ستعود سالمة. لكن نما فى القلب توجس بأن يحدث لى هذا الأمر يوما. تضاحكت يومها مع صديقى الجراح لأن جانيت كانت تنتظر الزفاف لانطوان المارونى ولم توافق كنيستها بسهولة. وسافر خيالى إلى زياراتى المتعددة فى اثناء حرب الاستنزاف إلى قسم عشرين بطب قصر العينى حيث يحتسى كبار الأطباء قهوة الصباح؛ وعندما تتاح فرصة لشاب فى الثامنة والعشرين صحبة أجلاء فى قامة أحمس الحمامصى وحلمى الحديدى وأحمد زعفان فلابد للشاب أن يشرب من نهر ما يعلمونه. تعلمت منهم ان الجهاز العظمى له موسيقى تنبع من الاتساق مع الجاذبية الأرضية. ضحكت معهم كثيرا لأن الجاذبية الأرضية هى التى تدفع الجنين من رحم الأم ليبدأ رحلة شرسة كى يقف على قدميه. سمح لى الكبار بأن يتم تعقيمى لأحضر بعض الجراحات. وعلى القرب كنت ألحظ شابا تبدو عيونه ككاميرا دقيقة. سألته عن اسمه ليستقر الاسم فى الذاكرة ولأسمع عن تقدمه العلمى من أساتذته أحمس الحمامصى وأحمد زعفان. ويؤكد الأستاذان ان من يهب وقته لمرضى مستشفى الهلال الخاص بجراحات العظام لأبد أن يبرز. وكان الاساتذة الكبار لا يضنون على مستشفى الهلال المجانى تقريبا بالزيارة وتدريب الأطباء. سنوات تمر ليرتقى حازم عبد العظيم قمة جراحة مفصل الفخذ والذى انكسر عندى كنتيجة مباشرة لإهمال إدارة مارينا لأمورها. فكرت للحظة أن أرفع قضية ضد الإدارة. تذكرت كلمة تعلمتها من الفريق يوسف صبرى أبو طالب يوم تسلمنا العريش من إسرائيل. راح يوسف صبرى أبو طالب يسأل كل مقاتل عن عدد المناديل والجوارب وجودة وجبات الطعام. اندهشت من أسئلته فقال لى المقاتل على الحدود هو نقطة قوتك أو ضعفك. ولو عامل كل قائد رحلة عمله بدراسة تفاصيلها ومراجعة تلك التفاصيل لما رأينا إهمالا. لا حظت ذلك فى أثناء عمل الرجل كمحافظ للعريش ثم للقاهرة. درس كل مهمة لأصغر نقطة فيها وصولا إلى القمة فيها. أتذكر أن مدينة نصر على سبيل المثال لا الحصر لم يرتفع بناء فيها عن المقرر لها يوم إنشائها ولكن فور ترك يوسف صبرى أبو طالب منصب المحافظ بدأت الارتفاعات المصحوبة بالانحرافات الفاضحة. أتذكر سؤال د. شريف بسيونى أحد مستشارى البيت الأبيض إبان بوش الأب؛ فقد حضر للقاهرة وعلى فمه سؤال عن محافظها يوسف صبرى أبو طالب. وكان شريف بسيونى قبل مجيئه للقاهرة فى زيارة تل أبيب وسمع التساؤل عن شخصية محافظها من اثنين اولهما شيمون بيريز الذى أبدى إندهاشه من نظافة مدخل القاهرة فى أثناء زيارة له. وكان الشخص الثانى هو شارون الذى قال لشريف بسيونى لم يسمح لى يوسف صبرى أبو طالب بأن أحكى جملة مكتملة عن الثغرة ؛ فعندما زرت القاهرة أحاطنى الرجل بمن يسألنى عن جرح جبهتى فى أثناء الثغرة و الذى نقلت من بعده إلى تل أبيب. وحضرت اللقاء بين شريف بسيونى وبين يوسف صبرى ابو طالب. خرج بعده شريف فخورا بأنه أمضى عامين قبل هجرته كضابط احتياطى بالجيش المصري. وبقى من الرجل فى الذاكرة هو دراسة التفاصيل. وكان صديقى الأثير منصور حسن يقول كلما كانت أدق التفاصيل واضحة يكون الحساب الدقيق للإنجاز فكرت فى أن رئيس وزراء مصر مصطفى مدبولى هو من اختيار عبد الفتاح السيسى القائد الذى لا يقبل الترهل فى العمل. ترى هل يحاسب مصطفى مدبولى إدارة مارينا التى لا تشبع ماليا وتترهل فى تفاصيلها؟ ولايمكن أن يصدق أحد حجم تكلفة الجراحة. ولم أطلب علاجا على نفقة الدولة لأنى أعمل كاتبا متفرغا بروز اليوسف التى يقودها شاب يعرف تاريخ كل من يعمل بها. يذكر لى عبد الصادق الشوربجى رئيس مجلس إدارة روز اليوسف أنى تسلمت قيادة مجلة صباح الخير مع رءوف توفيق وتحت قيادة الفنان حسن فؤاد وكان توزيعها أربعين ألف نسخة فارتفع إلى مائة وثمانين ألفا. ويذكر المهندس عبد الصادق أن أحد كبار رجال الأعمال أرسل شيكا بنصف مليون جنيه مساهمة منه فى بعض أثقال روز اليوسف بعد مقال كتبته عن تلك الأثقال. سألنى عبد الصادق الشوربجى يومها عن قيمة المكافأة التى أحلم بها من هذا المبلغ ؛ أجبته أن إحسان عبد القدوس علمنى أن الكاتب لا يؤجر على ما يكتبه وتقوم مؤسسته برعايته. وأشهد ان المؤسسة التى أعمل بها منذ ستين عاما تحاول رعايتى بأقصى ما تستطيع. وهل يمكن نسيان المتابعة بالسؤال عن تقدم العلاج من الصديق علاء ثابت رئيس تحرير الاهرام؟ أحاول نسيان آهات الآلام البشعة بمتابعة نشرات الاخبار؛ فأجد أثر الثلاثين من يونيو يحمى مدن مصر من أهوال الحروب الزاعقة فى ليبيا او سوريا او العراق. وأتساءل عن عدد من تهتز الجاذبية الأرضية فتتساقط الجدران فوق رءوسهم ويبيتون فى العراء. عشرات المئات يحتاجون لجراحات مثل التى أجريتها. ترى على يسعد ذلك هذا الأهوج الضال المسمى اردوغان أم الغرير الساذج الذى يبيح المال العربى لقتلة فكرة العروبة واسمه تميم؟ بينما يزغرد ترامب فوق جثة الحلم العربى بتحرير فلسطين. أمضى فى رحلة العلاج وأسأل من يحب كلماتى الدعاء بالشفاء لمزيد من مقالات ◀ منير عامر