«عمال البناء والأخشاب» تهنئ الرئيس السيسي والقوات المسلحة بذكرى تحرير سيناء    اضبط ساعتك.. موعد بدء التوقيت الصيفي في مصر 2024| وطريقة تغيير الوقت    أسعار الأسماك واللحوم اليوم 25 أبريل    عيار 21 الآن بالسودان وسعر الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024    ارتفاع سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الخميس 25 إبريل 2024    واشنطن تلقت فيديو الرهينة الإسرائيلي قبل بثه بيومين    مشاجرات خلال اعتقال الشرطة الأمريكية لبعض طلاب الجامعة بتكساس الرافضين عدوان الاحتلال    قصف مدفعي إسرائيلي يستهدف حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة    حزب الله يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية مختلفة    مباراة الحسم بين الأهلي ومازيمبي.. الموعد والتشكيل والقناة الناقلة    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    هتنزل 5 درجات مرة واحدة، درجات الحرارة اليوم الخميس 25 - 04 - 2024 في مصر    أحمد جمال سعيد حديث السوشيال ميديا بعد انفصاله عن سارة قمر    "شياطين الغبار".. فيديو متداول يُثير الفزع في المدينة المنورة    بسبب روسيا والصين.. الأمم المتحدة تفشل في منع سباق التسلح النووي    حزب المصريين: البطولة العربية للفروسية تكشف حجم تطور المنظومة الرياضية العسكرية في عهد السيسي    «الاستثمار» تبحث مع 20 شركة صينية إنشاء «مدينة نسيجية»    ب86 ألف جنيه.. أرخص 3 سيارات في مصر بعد انخفاض الأسعار    محافظ المنيا: 5 سيارات إطفاء سيطرت على حريق "مخزن ملوي" ولا يوجد ضحايا (صور)    تطور مثير في جريمة الطفلة جانيت بمدينة نصر والطب الشرعي كلمة السر    ميدو يطالب بالتصدي لتزوير أعمار لاعبي قطاع الناشئين    بالصور.. نجوم الفن يشاركون في تكريم «القومي للمسرح» للراحل أشرف عبد الغفور    عن تشابه «العتاولة» و«بدون سابق إنذار».. منة تيسير: التناول والأحداث تختلف (فيديو)    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    أبو رجيلة: فوجئت بتكريم الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    إصابة 9 أشخاص في حريق منزل بأسيوط    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    توقعات ميتا المخيبة للآمال تضغط على سعر أسهمها    لتفانيه في العمل.. تكريم مأمور مركز سمالوط بالمنيا    الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني يعلن الترشح لفترة رئاسية ثانية    أول تعليق من رئيس نادي المنصورة بعد الصعود لدوري المحترفين    تدريب 27 ممرضة على الاحتياطات القياسية لمكافحة العدوى بصحة بني سويف    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    يسرا اللوزي تكشف كواليس تصوير مسلسل "صلة رحم"|فيديو    تأجيل دعوى تدبير العلاوات الخمس لأصحاب المعاشات ل 24 يونيو    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منشورات فرعونية
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 06 - 2018

احتارت من تضعه قبل الثانى... التاريخ أم القطط... كان الاثنان وراء اختيارها لهذا البيت بالتحديد وللطابق الأخير منه... ظنت عندما شاهدت البيت لأول مرة أنه من البيوت التراثية التى بنيت بأعمدة خشبية قوية... سحرها طرازه القديم ومشربياته... وهى تشرح التاريخ لتلاميذها طالما تمنت أن تسكن بيتا يشع منه عطر الزمن... طلبت من زوجها أن يشترى الشقة التى تشغل الدور الأخير لأنها ظنت أن القطط التى تخافها لا تصعد الأدوار العليا... لم يقلقها بُعد البيت عن العمران ومساحات الفراغ الواسعة التى تحيط به فهى لا تعشق قدر الوحدة والهدوء وقراءة التاريخ وإعداد دروسه وزراعة محبته فى عقول وأرواح تلاميذها... ثم هناك ما لا يقل أهمية... إكتشفت أنه عندما يصفو الجو تستطيع على بُعد أن ترى النيل والأهرامات الثلاثة متلاصقة كما اعتادت أن ترسمهم على كل ورقة أو كتاب تحتفظ به.
جرى الزمن دون أن تُحس به ومات زوجها.. وهاجر أولادها وفشلت محاولاتها ليحتملوا الظروف الصعبة داخل بلدهم... طمأنوها أن شبكات التواصل الاجتماعى ستجعلهم معها طوال الوقت.. وفى زمن قريب تستطيع أن تستدعيهم وتتجسد صورهم على الشاشة أمامها بل سيخرجون ويجلسون معها حتى تضج وتطلب منهم الرحيل!!
لم يخطر ببالها أن يصل بهذه السرعة سن الإحالة إلى التقاعد... توسلت لمديرة المدرسة وحاولت أن تصل لوزير التعليم لتمنع أو على الأقل تؤجل إحالتها إلى الإعدام... الذى يطلقون عليه المعاش.
رجت الوزارة أن تظل تُدرس التاريخ بالمدرسة ودون أن تتقاضى غير معاشها الذى اكتشفت أنه سيكفى بالكاد حاجاتها الإنسانية وخاصة أسعار الدواء.
الطلبة والطالبات والتاريخ هم الزاد وإكسير الحياة الذى لا تريده أن ينقطع فى نهايات العمر... جاءها استدعاء عاجل.. طلبوا منها إخلاء مكتبها من حجرة المعلمات فقد وصلت المعلمة الجديدة... فى حقيبة ورقية كبيرة وضعت أوراقها ومجموعة كتب تاريخ مصر القديم الذى كانت تضيف إليها فى مكتبها وفى بيتها كل ما يصدر جديدا.
آه قالتها طويلة وعميقة وساخنة بحجم الألم الذى أحست به... لأول مرة تحس بالوجع الذى كان يزورها من حين لآخر فى ذراعها ولكن لم يخذلها أبدا فى حمل كراسات الطلبة التى لم تكن تكمل تصحيحها فى المدرسة.
لماذا يخذلها الآن عن حمل حقيبة أوراقها وبعض كتبها التى أخلتها من مكتبها.. بحثت عن حائط تتساند إليه.. وجدت ذراعا يسندها ويناديها باسمها ويقدم لها ذراعه لتتكئ عليه بعد أن أخذ منها حقيبة أوراقها .. أحست أن خطواتها أثقل مما اعتادت وبدا الطريق إلى بيتها لأول مرة.. طويلا وبعيدا.. ارتاحت لملامح وجهه الطيبة وأدبه الشديد.. اتكأت على كتفه وأسلمت أذنيها له.. عرفت أنه اضطر إلى ترك المدرسة بعد وفاة والده وأنه كبير إخوته ويجب أن يكون المسئول عنهم وأنه يحب الرسم وكان يتمنى أن يدخل كلية الفنون ولكنه راض بما قسمه الله وأنه أنعم على بالعثور عليد فرصة عمل باليومية فى السوق التجارية الذى سيتحول إليه الدكان الكبير القريب من بيتها.. همس لها وهو يتحسس بعينيه يمين ويسار الشارع.. يقولون أن صاحب المول من الكبار ولديه أموال كأنها مغارة على بابا.
على بوابة البيت أرادت أن تأخذ حقيبة كتبها وتصعد بها السلم.. أقسم الشاب الصغير أن يوصلها إلى باب شقتها... أحست أنه فعل خيرا فكأنها استبدلت عظامها وركبها بأحجار ثقيلة ولولا الولد ربما ما استطاعت أن تصل إلى شقتها خاصة أنها بدأت تكتشف ما كان لابد موجودا وانشغلت عن رؤيته بما كان يملأ رأسها دائما من شواغلها المدرسية.. حذرها الولد أكثر من مرة من تشققات فى الدرجات الخشبية.. ستر الله وذراع الولد منعا تعثرها فى كسر عميق خفى فى درج... سألها الولد مشفقا على أنفاسها التى بدأت تنقطع.. لماذا سكنت الطابق الأعلى.. كأنها لم تسمعه.. ومضت تصعد.. لم تشأ أن تعترف أنها القطط وأنها صدقت أنه يصعب عليها صعود الأدوار العليا.. وبالتدريج وبسماع موائهم المخيف على باب شقتها بعد ما لم يعد غيرها ساكنا فى البيت.. عرفت أنها أخطأت.. وأنهم أصبحوا يصلون إلى أى مكان يريدون الوصول إليه.
أصبح الولد ذراعيها وساقاها كان قد جاءها ببطاقته الشخصية وأعطاها صورة منها قالت له لم أطلبها منك اعتدت أن أصدق الناس وأثق بهم كتبت له توكيلا شهريا يقبض به معاشها جاءها حتى بأصغر الفكة ونظر لها ملتاعا وسألها.. هل بعد كل هذه السنين هذا كل ما تبقى لك؟
ذهب بكل استغاثاتها إلى المسئولين.. تتوسل إليهم أن يردوا لها روحها التى خرجت بخروجها على المعاش ويسمحوا لها بالعودة للتدريس ولا تريد منهم غير معاشها.. وكل مرة يعود الولد إليها حزينا.. الأبواب كأنها مغلقة بأقفال.. بالصدفة البحتة اكتشفت منه أن البنت التى يحبها يريد أهلها تزويجها بعريس آخر لأنه عجز عن شراء الشبكة لم يتبق لها من زمن العز إلا أسورة ذهبية دفعتها إليه وقالت له اشبكها بها لأنك إذا بعتها ستفقد نصف ثمنها وأفهمته أن الفصوص التقليد تبدو شديدة الجمال والأناقة وستسعد عروسه.. جاءها بإيصال أمانة.. مزقته وألقته فى وجهه.. قالت له إنه بمحبته ورعايته لها يعطيها ما لا يقدر بمال وجعله من لحمها ودمها.
مع مرور الوقت ثقلت الوحدة والصمت والفراغ.. لا ونس إلا القراءة فى كتب تملأ أكثر من مكتبة حتى غرفة نومها.. وتواصل نادر عبر الهاتف الأرضى مع زميلات قليلات يرحلن الواحدة بعد الثانية.. انتبهت لمشهد جديد عليها.. الأراضى الواسعة التى تحيط بالبيت تختفى.. ارتفعت فوقها أبراج ضخمة كأنها ديناصورات عملاقة تنصب فى الهواء وتفتح أفواها متوحشة تلتهم من يقف فى طريقها.
دارت فى الشقة الواسعة تتفقد جميع نوافذها على أمل أن تجد نافذة واحدة تصلها بالنيل الذى كانت تناجيه فى الغروب بما كان يردده المصرى القديم ليعبر سالما إلى الخلود وكيف أنه احترمه وقدسه ولم يلوثه أو يهين مياهه.
اختفت أيضا الأهرامات الثلاثة.. كانت تراها على مدد البصر عندما تصفو السماء وتسطع الشمس.
عرفت كيف أن الزمن ليس مطلقا وأن قياسه يرتبط بفراغه وامتلائه.. نهارها وليلها أصبحا ساعات ممتدة لا تتحرك ولا تنتهى.. وهى تُعلم الأولاد والبنات كانت تلهث وراء الوقت ليتمهل ويخفف سباقه معها وتشكو من انعدام البركة فى الزمن.
امتلأت وتدفأت بإحساس أنها أنجبت كل بنت وولد أرضعته وملأت عقله وروحه بتاريخ بلاده.. جسور الحوار وجدائل حكايات التاريخ جعلهم يعشقون الاستماع إليها والحوار معها.. ضحكت لأسراب الحمام التى بدأت تطيل الوقوف حول شرفتها التى تحيط بأغلب البيت وراء شبكة الأسلاك المتهالكة سألتهم إن كانوا يريدون أن يسمعوا ويتعلموا التاريخ.. أصبحت على موعد معهم تنثر لهم حبات القمح وتطرب لهديلهم المطمئن ويتنامى إحساسها بفهم ما توحى به أصواتهم.. ولا يكف حوارها مع حديقة صبارها الصغيرة... طوال عمرها تحس أن صبار الصحراء أشبه نبات بها وتؤمن أن له لغته وحسه وترى على وجهه حالتها النفسية.. يضطرب معها ويشرق ويزدهر عندما ينشرح صدرها وتسمع نداءه على الماء عندما يعطش وشكره وهى ترويه.
كما اعتادت يوميا.. يأتيها الولد فى توقيت راحته بين فترتى العمل الصباحية والمسائية.. أصبح وجوده وحضوره جزءا أساسيا من حياتها يشترى ما طلبته بالأمس أو ما يستجد مما تحتاج إليه.. ولا يكف وبسعادة الدنيا عن الحكى عن حبيبته التى أصبحت خطيبته ويريها صورها معه على تليفونه المحمول.. ويحكى كيف يتعاونان فى دفع أقساط شقة فى مشروع إسكان شعبى.
الشقة صغيرة لا تزيد على حجرتين وصالة ولكنها نعمة لم يحلما بها ويعرف أنها بالحب والبركة والرضا ستكبر وأنه يستطيع ببعض الأعمال الجانبية التى تأتيه بالقليل الذى يساعد أيضا وخطيبته تشارك فى جمعيات لفرش البيت.
تذكرت أن محاولاتها لتشغيل الكمبيوتر فشلت وطلبت منه إصلاحه ربما أولادها يحاولون الاتصال بها ولا يستطيعون.. سألها عن عناوينهم ليتصل بهم.. لم تصارحه أن ذاكرتها لم تعد تسعفها وأكدت أنها ستجدها على الجهاز بعد إصلاحه..
طلب منها كلمة السر التى تفتح الجهاز.. قالت له أنها تخشى أن تنسى اسمها.. وأعادت عليه السؤال الذى تكرره دائما... هل عادت ساكنة الدور الأول؟ فهم أنها أقدم جارة سكنت معها منذ أيام زواجها الأولى.. وطلبت قريبة منها حتى أخبرتها أنها ستنتقل مع زوجها للعمل فى دولة عربية كانت تراها فى الإجازات دائما عندما يعودون بسفينة عن طريق البحر الأحمر.. منذ غرقت العبارة السلام لم ترها ولم تعرف هل كانت هى وزوجها وأولادها من ركابها... المؤكد عندها أنهم كانوا يذهبون ويعودون عن طريق البحر... ولم ينقطع أملها فى عودتها ولم تكف عن طلبها من الولد ألا ينسى أن يدق باب جارتها لعلها عادت.
تجربتها مع محاولة النزول لتسأل عنها بنفسها كانت قاسية وكادت ساقها تنكسر لولا ستر الله وظلت فترة طويلة تعانى وجعا فى كل عظامها... لا تعرف لماذا عادت لتعيد على ذاكرتها تجربة طفولتها والطلاق المبكر بين أمها وأبيها وكيف تحولت عند أبيها ابنه لأمها فقط وعند أمها ابنة لأبيها فقط وإيداعها المبكر فى مدرسة داخلية وتحول المعلمات إلى أمهات لها ولا تتذكر كيف انفرطت الروابط ولم تعد ترى أحدا من أهلها.. كان يخيل لها وهى صغيرة أنها جاءت من رحم الأرض وأنها عندما تكتب الكتب التى تمنت أن تكتبها ستطلق على نفسها «بنت الأرض».
لاحظت بريقا فى نظرات الولد كلما طل على المكتبة الكبيرة التى تملأ صالة بيتها.. أعاد حكى كيف كان يتمنى أن يكمل تعليمه ويدخل كلية يتقن فيها الرسم الذى عشقه... فشل فى الالتحاق بالجامعة المفتوحة بسبب ضيق الوقت واليد..
أعطته كتابا من كتب التاريخ ليقرأ فيه فى أى لحظات فراغ يستطيع أن يخطفها... لم تصدق ما رأته أمامها بعد فترة قصيرة... أعاد الولد رسم وتلوين جميع اللوحات والجداريات المرسومة فى الكتاب ولونها بألوان تحاكى ما استخدمه قدماء المصريين.. بدت رسومه كأنه التقطها بكاميرا حساسة من فوق جدران المعابد.. كانت قد عرفت منه أن ملاك السوق التجارى الضخم الذى انتشرت فروعه فى أنحاء البلاد سيقومون باستجلاب عمالة أجنبية لأنها تتقاضى أجورا أقل... اقترحت عليه أن يتقدم بطلب قرض مما يقدم للصناعات المتناهية الصغر ويشترى لفافات من أوراق البردى ويحولها إلى لوحات تترجم وتفسر الحكم والأمثال التى امتلأ بها الأدب الفرعونى والتى ستقوم باختيارها له.
جن الولد من الفرحة وجاء وبشرها بنجاحه فى الحصول على قرض متواضع لأنه لم يكن معه الضمان المطلوب للقروض الأكبر... أعطته ثروة مما اختارت من كتب الحكم والأمثال الفرعونية.
(همس المظلوم أعلى صوتا من صراخ الظالم فالسماء تسمع همس المظلوم ولا يصل إليها صراخ الظالم.)
(المناصب لا تبدل الرجال بل تكشف أقنعتهم.)
(من يعُل على سواعد غيره يقع عندما تتخلى عنه السواعد التى تحمله.)
(إذا ارتدى الحمار قناع الأسد ليرتفع إلى مجلس الأسود ويحضر مجلسهم بقى حمارا يكشف عنه صوت نهيقه عندما يحاول الزئير تشبها بالأسد.)
(أشد ساعات الليل ظلاما تلك التى تسبق الفجر.)
(كرسى الحكم لا يغير من يجلس عليه بل يكشفه.)
(لا صداقة بين الشركاء فى السلطان فالحاكم لا يأمن الصديق ولا يطيق صديقا.)
(معدة الفقير فى حاجة إلى طعام وطعام الغنى فى حاجة إلى معدة.)
(إذا أردت قتل الثعبان فهشم رأسه قبل أن تمسكه من ذيله.)
(لا يمكنك أن تصنع شيئا تغير به الماضى ولكن عليك أن تصنع شيئا تغير به المستقبل.. اليوم يبدأ بالأمس والغد يبدأ اليوم.)
(هناك أناس كالتماثيل لا تعيش ولا تموت.)
(قطيع يرعاه ذئب.. قوم يسودهم ظالم.)
(الفرق بين الجاهل والحمار.. أن الحمار له فائدة.)
(هدوء سطح البركة قد يخفى التماسيح التى ترقد فى قاعها.)
(زارع الشر يروى أرضه بمياه الظلم فلا تنبت إلا أشواك الحقد.. وزارع الخير يروى أرضه بمياه الحق فلا تنبت إلا زهور المحبة)
(الفلاح الفصيح)
(شجرة الصبار لا تطرح زهور اللوتس.)
(الأسماك التى تعيش فى البرك الفاسدة يسرى عفن رائحة ماء البركة فى دمائها.)
(لا تتكلم إذا وجب عليك السكوت.. ولا تسكت إذا وجب عليك الكلام.)
(العمر هو الشيء الوحيد الذى كلما زاد نقص.)
(لكل قوة ما هو أقوى منها ولكل قوى من هو أقوى منه.)
(كرسى عرش الحكم ليس ملكا لأحد فقد جلس عليه فرعون من قبلك وسيجلس عليه فرعون آخر بعدك.)
(إذا ارتفع صوت زئير الأسد فى الغابة سكتت أصوات الكلاب.)
(دعاء المظلوم تسمع همس السماء وصراخ الظالم لا يصل أبعد من أذنيه.)
(عندما يرفع الفرعون السيف بيده اليمنى يسقط الميزان من يده اليسرى.)
(عندما يصل الحاكم إلى كرسى العرش يفقد نصف عقله وعندما يفقد الكرسى يفقد النصف الباقى.)
(الذين يتكلمون لا يعملون والذين يعملون لا يتكلمون.)
(إن المناصب لا تدوم.. فالعرش الذى تجلس عليه اليوم.. جلس عليه بالأمس من سبقك وسيجلس عليه فى الغد من سيخلفك أو يأتى بعدك ولا يدوم إلا أعمالك الصالحة التى أنجزتها وأنت جالس على العرش.)
(لكرسى الحاكم العادل مسندان: الحكمة والرحمة.)
(أيها القاضى لا تجلس أمام الميزان لتحكم بين الناس إلا وأنت سليم القلب مطمئن النفس صحيح الجسد، مستريح الضمير.)
(الحقيقة التى توليها ظهرك تطعنك فيه.)
(أيها القاضي: إياك أن تكون أحكامك مبنية على رأى مطلق، بل ارجع فيها إلى الشرائع المرسومة التى تأمر بالعدل وإنصاف الناس التى وضعها الإله الذى يأمر بالعدل والإحسان والإنصاف ولا يرضى بالظلم والانحراف عن الحق.. وابن رأيك فى البت فى الأمور بالأسانيد والبراهين العادلة التى يبهج بها ضميرك.)
(لا ترد صاحب شكوى قبل الاستماع إلى شكواه كاملة.. استمع إلى صوت المظلوم ولا تترك غضبك يصم أذنيك عن سماع صوته.. لا تنس أن صوت المظلوم أعلى صوتا عند الإله.)
بسرعة لم تتخيلها جاءها بالبردية الأولى الذى رسمها كادت لا تصدق روعة ما فعل الولد،، قدر الدقة والحساسية والجمال والحس التاريخ لرسومه وفى واحدة منها وبالحروف الهيروغليفية كتب تحتها (تعلموا لتتعلموا كيف تعملون.. فإتقان العمل صلاة)... لولا التاريخ الذى سجله ليوم رسمها ووضعه فى خلفية اللوحة لبدت كأنها بردية قادمة من أعماق التاريخ.. طلب رأيها وملاحظاتها أكدت أنه موهوب أكثر مما تخيلت وحكت له كيف كانت تتعذب بالرسوم المشوهة والظالمة للفنان المصرى القديم وخاصة عندما كانت تصطحب أبناءها الطلبة والطالبات لزيارة المتاحف والمناطق الأثرية.
جاءها طائرا من الفرحة لا يصدق النجاح والإقبال على إنتاجه.. بشرها أنه سيتفرغ لمشروعه ليلبى الأعداد التى تتزايد كل يوم.. فى ليلة زفافه على حبيبته جاء الاثنان بملابس الزفاف ليلتقطا صورة معها وأهدتها فازة جميلة من مقتنيات لم يتبق الكثير منها فقد اعتادت أن تبيع بعضها لفك أى زنقة تمر بها... انضمت البنت للولد فى رعايتها خاصة عندما تزداد ضغوط العمل على الولد.. أهداها جهاز محمول لتتواصل مع أولادها كادت تجن.. كأن كل ما فوق شريط ذاكرتها مسح.. وعدها أن يبحث عن مركز أفضل لإصلاح جهازها القديم المدون عليه جميع الأرقام.. علمها كيف باللمس تكتب ما تريد لأولادها ودون أن يقلقها ثقل ذراعها.
أعادت عليه ما لم تتوقف عنه أن لا ينسى أثناء صعوده وهبوطه أن يدق شقة جارتها بالدور الأرضى ويعرف هل جاءت أم مازالت مسافرة.. انفرط قلبه من الرسائل القصيرة التى قالت إنها سترسلها لأولادها عندما عثر على قصاصة ورق كتبت عليها أرقامهم وأودعتها بين صفحات كتاب من الكتب التى تملأ بيتها واعتادت أن تكتب فوق هوامشها ما يهمها أن تحافظ عليه.. بكى وهو يحكى لعروسه رسالة طلبت منه أن يساعدها فى كتابتها أنا أمكم.. هل مازلتم تتذكرون... الوحدة ثقيلة ووجع العمر أثقل.. لا أخاف الموت.. أخاف العجز والمرض.
طلبت منه حذف الجملة الأخيرة حتى لا تؤلمهم.
أخفت مشاعر الضعف والقلق التى تمر بها وتنقلب إلى كوابيس ليلية يستيقظ فيها أشباح وأموات وأحداث غريبة ننسى معظمها عندما نستيقظ.
لم يغب عنها الولد يوما لا قبل ولا بعد نجاح ومشروعه، لذلك عندما طال غيابه لأول مرة أحست بالقلق/ اتصلت بزوجته وجدتها تكاد تجن غاب منذ أيام وفشلت جميع محاولاتها للعثور عليه...
ظنت أن الولد عاد أو عادت جارة عمرها عندما سمعت حركة على السلم غير حركة القطط.. فتحت الباب لتجد وجوها غريبة لهم رائحة نفاذة انقبض لها قلبها.. قدموا لها حقيبة وقالوا لها إن معهم لها حقيبة ثانية مثلها لم تفهم قالوا إن فى كل حقيبة مليون جنيه.. وإنهم اشتروا شقق البيت ولم يتبق إلا شقتها وشقة فى الدور الأول.. وأنها إن لم تستجب سيحصلون على الشقة ولن تحصل على جنيه واحد فلديهم عقود بيع موقعة منها وبأختام الدولة.. دفعت الحقيبة وصرخت فى وجوههم وأغلقت الباب وسارعت تطلب زوجة الولد وجدتها تصرخ وتستنجد بها وتتوسل إليها أن تصطحبها إلى قسم الشرطة..
أخيرا... أخيرا وبعد أن فقدت كل أمل فى الوصول إليه عرفت أنه تم القبض عليه وأنه متهم بالتخفى وراء الحضارة الفرعونية لبيع منشورات تحرض على التفكير والتمرد وأن أدلة الاتهام مجموعة منشورات محرضة تتخفى تحت رسوم مصرية قديمة... فى حقيبة أوراق قديمة تبقت لديها ذكرى لأمتع أيام عمرها عندما كانت تملؤها بكراسات الأولاد والبنات وكتب التاريخ وعندما كانت تقيم لهم مسابقات حول أهم أحداث التاريخ وتشترى لهم من مرتبها المتواضع هدايا تشجيعية جميلة... ملأت الحقيبة بكل ما استطاعت أن تصل إليه من كتب الحكم والأمثال فى الأدب الفرعونى وأقرب إلى الزحف ومتساندة إلى زوجته أخذت أكثر من ساعة فى النزول وكادت ساقها تنكسر فى شرخ كبير بالسلالم المتهالكة.
فى قسم الشرطة فتحت الكتب وأخذت تقرأ... وحكت حكاية مشروعه وحكاية الولد معها... وحكايتها مع التاريخ الذى حرموها تدريسه وزراعته فى أجيال جديدة بالطريقة التى كانت تجعل أولادها وبناتها فى المدرسة يعشقونه ويفتخرون بأنهم أحفاد هذا التاريخ ويجب أن يكونوا الأوائل كما كان أجدادهم.. أخذت تحكى وتفسر كيف أن الحكم والأمثال تفسر لغز الحضارة الفرعونية وما جاء فيها عن العقيدة وخلق الإنسان وسر الوجود وأنها وصلت إلى جميع الحضارات القديمة وتأثرت به العقائد والأديان وأن أناشيد اخناتون على سبيل المثال رددتها مزاميز داود رغم أنها ظهرت بعد إخناتون بثلاثة قرون وأن المتاحف فى أنحاء العالم تحتوى حتى اليوم آلاف البرديات تضم من الحكم والأمثال ما لم تفسر رموز معظمه حتى الآن.
تحسرت على أجيال يواصلون قطع جذورها... أفرجوا عن الولد وحرص ضباط شبان أن ينصحوه بالتوقف عن كتابة ورسم المنشورات الفرعونية فربما يقع بين أيدى من لايستطيعون فهم أو تصديق حكايات معلمته.
خرجت معه ومع زوجته وإحساسها يتزايد أنها داخل كابوس من كوابيس ليلها.
فى الدور الأول ظلت تطرق باب جارة عمرها لم يفارقها الأمل أن تعود يوما..
حاولت أن تصعد السلم متساندة إلى البنت والولد... عجزت ساقاها.. نحول جسدها بفعل الزمن سهل مهمة الولد فى حملها والصعود بها.. وحملت زوجته حقيبة الكتب التى حرصت على الاطمئنان على ما تبقى فيها بعدما أهدته للضباط وأفهمتهم أنهم قد يتعرفون على أنفسهم إذا قرأوها وفهموها.
وصلوا إلى شقتها بالطابق الأخير وتفادى الولد ببراعة الشقوق التى يحفظ مكانها وهو مغمض العينيين من صعوده ونزوله اليومى.. طلبت منه أن يفتح جميع النوافذ لتجد هواء تتنفسه.. أدرك أن مقاييس نظارة النظر التى اشتراها لها منذ شهور قليلة بمقاييس قياس قديم عثرت عليه لم تعد مناسبة لها نوافذ الشقة كانت مفتوحة وآثار عبث حدث أثناء غيابها... سكت حتى لا يزداد قلقها واضطرابها الذى لاحظه فى الأيام الأخيرة وفهم أنها تقلب المكتبات الضخمة التى تملأ البيت يوميا على أمل العثور على كتاب كتبت فى هوامشه عناوين أو أرقاما يمكن أن تدلها على أولادها.. وفشلت جميع محاولاتها.
سألته إن كانت مازالت تستطيع أن ترى النيل والأهرامات.. لا تعرف لماذا اختفوا تماما فى الشهور الأخيرة... وهل تستطيع رؤيتهم إذا اشترت نظارة جديدة..
التزم الصمت فقد اختفوا تماما وارتفعت الديناصورات الأسمنتية كحبل المشنقة التفت وملأت الفراغات حول البيت من جميع الجهات.. واهتزازات ماكينات حفر ضخمة تهز جدران البيت.
أحس أنه لم يتبق إلا القليل على سقوطه.. توسل إليها وتوسلت عروسه أن تأتى وتقيم معهما... استعادت حس وقوة معلمة التاريخ وسألتهما هل تعرفان طائر النار...؟
نظرا إليها بحب وشفقة قالت لهما أنا بكامل عقلى ووعيى.. طائر النار من المعتقدات المصرية القديمة عن الطائر الذى قتل نفسه وسط اللهب ثم ولد ثانية من رماد جسده المحترق والذى كان يظهر على فترات منتظمة فى مصر القديمة.. فى إحدى الروايات 500 سنة وألف سنة فى رواية أخرى واعتقد المصريون أن عودته فى فترات منتظمة تنبئ بأحداث مهمة وصارت لديهم عقيدة أن من المصريين من هم مثل طيور النار كلما اشتدت الأحداث بهم ولدوا أقوى من رماد أجسامهم المحترقة بالألم والصبر والمقاومة وأنا وأمثالكم من طيور النار التى لا تموت إلا لتولد ميلادا أكبر.
كما اعتاد أن يراها عندما تشتد عليها الأزمات أشد وأصلب وأقوى وكأنها تستعيد شبابها البعيد رآها بعد يومهم العاصف والثقيل والطويل.. لم تكن أبدا أبدا فى سعادة اليوم... سألها... قالت له الحمد لله مازال تاريخنا قادرا على إنقاذنا رغم كل ما حدث له وحدث لنا.. أخبرته أنها ستختار له مجموعة جديدة من حكم وأمثال مصر القديمة وتعمل معه ليكبر مشروعه ويتوسع وتمده بأفكار جديدة..... مازالت فى يدها فسيلة تريد أن تزرعها بعد أن تزود وعروسه منها بالقوة والثقة واستعدا للنزول طلبت منه ألا ينسى أن يٌُغلق جيدا البوابة الحديدية الخارجية للبيت
قال لها: وإذا عادت جارة عمرك
قالت: لا أظن أنها ستعود بعد كل هذا الغياب.
سألها هل بيدى شيء أفعله بدلا منها؟
لن أفقد الأمل فى أن تعود... ولا تكون ضاعت فى البحر مع كل ما ضاع.. أريد أن أعرف منها.. هل فى مطلع شبابى أنجبت أولادا غير من أنجبتهم من رحم عقلى وسنوات تدريسى.. قبل أن يحاولوا اعدامى
فى صوت واحد قال الولد والبنت:
طيور النار لا تحترق أبدا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.