جديرة هى بالتأمل تلك الضجة التى ثارت فى فرنسا حول دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون لإصلاح العلاقة بين الكنيسة والدولة، إذ تحسس العلمانيون المتطرفون على الفور مسدساتهم، مهاجمين الرئيس الفرنسى بعنف، ومصورين دعوته على أنها هدم لأركان العلمانية، ومبدأ فصل الكنيسة عن الدولة.. وعلى الرغم من أن هناك علمانيات مؤمنة تختلف عن العلمانيات التى تنكر الأديان كلية، وعلى الرغم من تصدى وزير الداخلية الفرنسى جيرار كولومب المكلف بالعلاقات مع الديانات، لمثيرى تلك الضجة قائلا: «إن دعوة ماكرون لا تتعارض إطلاقا مع العلمانية، وأنها تمزج ما بين المادى والمطلق أو الروحانى»، فضلا عن تأكيد ماكرون ذاته أن الكنيسة تستطيع أن تساعد الدولة فى أزمات البلاد.. فإننى وددت بالتعرض لهذا الملف أن أتناول ذلك الهجوم الشديد الذى يثيره اليساريون أو الليبراليون على فكرة مراعاة الجانب الدينى أو الروحانى فى السياسات التى تنتهجها الدولة، وربما وجدوا فى ظاهرة التطرف والإرهاب التى استشرت فى العقود الأخيرة غطاء يستر خصلتهم التى ذاعت بين بعضهم ودفعتهم إلى كراهية الدين أو المتدينين.. الموضوع ليس هكذا، فالتدين ليس هو التطرف، وبروز وظهور الوازع الأخلاقى والروحانى فى تشكيل القرار السياسى أو قرار الدولة بعامة لا يعنى تخليها عن العلمانية، ولا يمكن ترجمته بأن الدولة ينبغى عليها الحصول على إذن من الكنيسة قبل اتخاذ أى قرار أو انتهاج أى سياسة أو أن تكون لها مرجعية دينية بحتة.. استعانة الدولة بالكنيسة هى مسألة «رمزية» ولا تُترجم حرفيا، إذ أنه يعنى فقط استعانة الدولة بمبادئ الأديان، سواء مسلمة أو مسيحية، واستخدام الوزن المعنوى الكبير للمسجد والكنيسة فى إقناع واستمالة الجماهير لمساندة قرار أو توجه أو سياسة، العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية لا تعنى خضوعا وانصياعا مطلقا، كما لا تفرض تقويضا لمبادئ العلمانية، ولابد من مراجعة اليساريين والليبراليين المؤمنين بمبدأ العلمانية المطلقة لمواقفهم، حتى لا يظهروا بسمت أو شكل المتطرفين الذين يهددون صفة «التوازن» فى قرارات الدولة، بل ويهددون الدولة ذاتها. لمزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع