قضى الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودى، أكثر من ثلاثة عقود، يجمع السيرة الهلالية من نجوع الصعيد المتناثرة، على لسان رواتها الذين توارثوها جيلا بعد جيل، وتناقلوها على ألسنة الناس وأفئدتهم مثل نص مقدس، لا يجوز الاقتراب منه بالحذف أو التغيير، إلا فيما ندر، ليترك لنا فى النهاية كنزًا تراثيًا لا يقدر بثمن، يكفيه أنه نقله من الشفاهية إلى التدوين الخالد. وربما لا يختلف كثيرون على موهبة الأبنودى، باعتباره واحدًا من أبرز شعراء العامية الذين ظهروا فى مصر- بعد بيرم التونسى وفؤاد حداد- لكن المؤكد أن الكل قد يتفق على أن برنامجه الأشهر الذى قدمه لسنوات طويلة عبر إذاعة «الشعب»، وعرض خلاله السيرة كاملة على لسان العظيم الراحل جابر أبو حسين؛ لعب دورًا كبيرًا فى صناعة مجده الشعرى، ونقله من منتديات المثقفين والشعراء، إلى عموم الشعب المصرى، الذى كان قد عرفه فى وقت سابق، مؤلفًا غنائيًا لا يشق له غبار، عبر أصوات حليم ورشدى وشادية وغيرهم من نجوم الغناء والطرب فى مصر. ولا يزال المرء يتذكر حتى اليوم بحنين غامر، صوت الأبنودى وهو ينسل عبر أثير الإذاعة المصرية، فى الثامنة مساء، ليقدم فى نحو ثلاث دقائق، فصلا من فصول الهلالية، قبل أن ينطلق صوت جابر أبو حسين رائقًا، ليروى بطولات الهلالية، بدءًا من نبوءة بركة الطير، ورحلة خضرة الشريفة إلى مكة بالرضيع الأسطورى، مطرودة من ديار بنى هلال، وليس انتهاء بالتغريبة إلى بلاد تونس الخضراء، وقصة صراعهم الدامى مع الزناتى خليفة، ذلك الصراع الذى لم يخل من رومانسية حالمة، بقصة الحب التى جمعت بين عزيزة ابنة السلطان معبد، أجمل بنات تونس، التى تغنى بجمالها الشعراء، ويونس، ابن الملك سرحان الذى تحاكت بحسنه العربان، باعتباره أجمل فتيان بنى هلال. ويربط الأكاديمى الكبير، وأستاذ الأدب الشعبى، الدكتور أحمد شمس الحجاجى، فى دراسة معتبرة، بين السيرة الهلالية- باعتبارها واحدة من أهم تجليات الأدب الشعبى فى التاريخ العربي- وبين إلياذة هوميروس- تلك الملحمة الشعرية الإغريقية التى كتبت فى القرن التاسع قبل الميلاد، وتحكى قصة حرب طروادة الشهيرة- ويقدم الدكتور الحجاجى مقاربة مدهشة فى دراسته، ما بين هيلين، زوجة أمير إسبرطة، التى اختطفها الأمير باريس، ملك طروادة، وكيف حرّك ذلك غضب ملوك اليونان، الذين خرجوا لغزو طروادة دفاعًا عن شرفهم، وبين عزيزة التى خطفت يونس، ما أوغر صدر الهلالية، فقرروا غزو تونس للانتقام، فيما عرف ب»التغريبة» فى السيرة الهلالية. على مدار عقود، شنّف رواة السيرة الهلالية آذان المصريين، بالجميل من القول والألحان، بدءًا من الشيخ جابر أبو حسين، وعز الدين نصر الدين، وعلى جرمون، وغيرهم وليس انتهاء بعم سيد الضوى، الذى غادرنا هو الآخر قبل نحو عامين، ليتركوا شذرات من تراث عظيم، لا يزال بحاجة إلى مجهود بحثى كبير لجمعه، قبل أن تتحول أعظم سيرة شعبية فى تاريخ العرب إلى أثر بعد عين. [email protected] لمزيد من مقالات أحمد أبو المعاطى;