يشهد النظام الدولى حاليا العديد من التطورات المهمة التى من شأنها أن تنعكس على هيكل هذا النظام وعلى نمط إدارة العلاقات الدولية ،وعلى معالجة الأزمات ومصادر تهديد الأمن والسلم الدوليين. وتتجسد تلك التطورات فى الآتى: أولا: حرب طرد الدبلوماسيين بين الغرب وروسيا على خلفية تسميم العميل الروسى سيرجى سكريبال فى لندن الشهر الماضى, وما تبعها من قيام الدول الغربية مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا ومعهما العديد من الدول الأوروبية بطرد أكثر من 160 دبلوماسيا روسيا, فى خطوة غير مسبوقة, وردت روسيا بطرد عدد مماثل من الدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين فى إطار المعاملة بالمثل, وتمهلت فى طرد دبلوماسيا الدول الأخرى فى محاولة من موسكو لتفكيك التحالف الغربى ضدها وإدراكا منها أن هذه الدول أجبرت تحت الضغوط الأمريكية والبريطانية لاتخاذ تلك المواقف, وهو ما يؤدى إلى مزيد من تدهور العلاقات بين روسياوالولاياتالمتحدة والغرب, المتدهورة أساسا منذ أزمة أوكرانيا وضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 وما أعقبها من حزمة من العقوبات الأمريكية والأوروبية عليها, كما أن هذه الخطوة تزيد من سخونة الحرب الباردة الجديدة. والواقع أن رد الفعل الغربى فى أزمة الدبلوماسيين يتعدى مجرد عملية تسميم العميل الروسى, إلى كونها جزءا من إستراتيجية غربية تقودها الولاياتالمتحدة لتحجيم الدور الروسى المتصاعد فى النظام الدولى فى العديد من الأزمات والقضايا مثل الأزمة السورية, ولتدخلها فى العديد من الانتخابات الغربية، وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية الأمريكية, والذى جاء بدوره كرد روسى على تدخل الغرب فى الأزمة الأوكرانية وفى الثورات البرتقالية عام 2007. ثانيا: تصاعد الحرب التجارية بين الولاياتالمتحدة وبين الصين بعد قرار ترامب فرض رسوم جمركية على صادرات الصلب والألومنيوم الصينية للولايات المتحدة بنسبة 25%, وردت عليها الصين بفرض رسوم جمركية على وارداتها بما يصل إلى 25%على 128 منتجا أمريكيا من بينها لحوم الخنازير المجمدة والنبيذ وبعض الفواكه والمكسرات, وهو ما يعنى اشتعال الحرب التجارية وتداعياتها السلبية على حرية التجارة العالمية, ويعنى أن الحرب الاقتصادية هى أبرز ملامح الحرب الباردة الجديدة بين القوى الكبرى فى النظام الدولى. هذان التطوران يؤشران إلى أننا أمام نظام دولى جديد يتم بلورته فى الفترة المقبلة, خاصة بعد حالة السيولة التى أعقبت نظام القطبية الثنائية الذى ساد خلال فترة الحرب الباردة والذى انهار فى عام 1990, وحكمت صراع الايديولوجيتين الإشتراكية والليبرالية وتوازن الردع النووى, وحل محله النظام الدولى أحادى القطبية التى تهيمن عليه الولاياتالمتحدة وحكمته قواعد الاقتصاد كمحرك للسياسة وللعلاقات الدولية وتراجع مفهوم الإيديولوجيا حيث تبدلت التحالفات الدولية وفقا لمفهوم المصلحة الاقتصادية, وأخذ النظام الدولى أحادى القطبية فى التراجع بعد عام 2005 مع تصاعد قوى دولية بارزة فيها مثل روسياوالصين, اللتين سعتا إلى إحلال نظام دولى متعدد الأقطاب وكسر الهيمنة الأمريكية من خلال امتلاك مقومات القوة الشاملة وعلى رأسها القوة الاقتصادية حيث صعدت الصين لثانى أكبر اقتصاد فى العالم ولديها عجز تجارى كبير لصالحها فى مواجهة الولاياتالمتحدة, وسعت إلى ترجمة قوتها الاقتصادية إلى قوة سياسية عبر تخليها عن سياسة الحياد فى القضايا والأزمات الدولية وأصبحت أكثر انخراطا فيها وأن كان بحذر, حيث شهدنا الصين فى مجلس الأمن تستخدم حق الفيتو أكثر من مرة كما حدث فى الأزمة السورية, وأخذت تطور من قدراتها العسكرية الإستراتيجية. أما روسيا فقد استعادة عافيتها الاقتصادية فى عهد الرئيس بوتين وتصاعد دورها العالمى فى الأزمات الدولية فى الساحات التقليدية لنفوذ الولاياتالمتحدة مثل الشرق الأوسط وأفغانستان, وأعلنت عن تطويرها لأسلحة نووية إستراتيجية, وبرز دورها فى مجلس الأمن عبر استخدام الفيتو أكثر من مرة سواء تجاه قرارات تمس الأزمة السورية ومنع إدانة النظام أو التحقيق فى استخدام الأسلحة الكيماوية, كذلك استخدام الفيتو فى الأزمة اليمنية ومنع صدور قرار يدين إيران لتزويدها صواريخ باليستية لميليشيات الحوثى الانقلابية والتى استهدفت السعودية, وهو ما يعنى أن روسيا اعتمدت على تبنى سياسة الدفاع عن الحلفاء الإقليميين مثل إيران وسوريا واستقطبت تركيا لجانبها, لمواجهة الإستراتيجية الغربية لاحتوائها. النظام الدولى الجديد الذى يميل إلى التعددية القطبية, يحمل العديد من المخاطر العالمية, أبرزها التأثيرات السلبية على النظام القانونى الدولى المتمثل فى الأممالمتحدة وعجز مجلس الأمن عن التعاطى مع الأزمات العالمية التى تهدد السلم والأمن الدوليين كما حدث فى الأزمتين السورية واليمنية وفى القضية الفلسطينية, نتيجة للإفراط فى استخدام الفيتو من جانب القوى الكبرى, كما أنه يؤثر سلبا على الاقتصاد العالمى وتحوله من التعاون والتكامل وحرية التجارة إلى حرب تجارية بدورها ستؤثر سلبا على الدول الصغيرة. وإذا كانت المواجهة العسكرية المباشرة بين القوى الكبرى مستبعدة, على غرار فترة الحرب الباردة, فإن الحرب الباردة الجديدة وأدواتها الاقتصادية والدبلوماسية, تعنى أن النظام الدولى الجديد أكثر اضطرابا وأكثر تهديدا للسلم الدولى ومواجهة المشكلات العالمية مثل الإرهاب والحروب الأهلية والأمراض والتصحر وغيرها والتى تتطلب التعاون بدلا من الصراع. لمزيد من مقالات د.أحمد سيد أحمد