العالم على شفا حرب تجارية واسعة النطاق. هذه حقيقة صنعها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، يقينا منه بأن «الحروب التجارية جيدة، ويمكن كسبها بسهولة». وهذا اليقين الذى ينطلق منه ترامب هو الاعتقاد الشائع لدى الامريكيين، قليلى التعليم، ذوى الدخل المنخفض ومعهم أصحاب الأنشطة الإقتصادية المتخلفة الذين اعتادوا أن يحصلوا على أرباح ومزايا اتاحها لهم وضع الولاياتالمتحدة كقوة منتصرة بعد الحرب العالمية الثانية. إن هؤلاء ينكرون حقيقة أن العالم تغير كثيرا فى العقود الاخيرة، وأن التحدى الذى يواجه بلادهم ليس أن تعيد العالم إلى ما كان عليه فى الخمسينيات، ولكن أن تتغير هى لكى تلحق بالعالم وتتمكن من الاستمرار فى المشاركة فى قيادته. أعود إلى ترامب الذى يريد أن يجعل أمريكا «عظيمة مرة ثانية» واستعادة قيادتها المنفردة للعالم، وراح بشعاراته الشعبوية يلهب مشاعر جمهوره ضد المكسيكيين الذين يعبرون الحدود والمهاجرين من دول أخري، وضد حلفاء واشنطن الذين يتقاعسون عن تحمل نصيبهم فى أعباء الدفاع داخل حلف الأطلنطي، وضد منافسين مثل الصين، وحتى ضد حلفاء وأصدقاء تاريخيين فى الخليج العربى بحجة إنهم لا يدفعون كما يجب! فى هذا السياق يريد الآن ترامب أن يحقق للولايات المتحدة مكاسب بعشرات المليارات من الدولارات من وراء رفع الرسوم التجارية على وارداتها من الصلب ومن الألومنيوم. وهو بذلك يعتقد أن القضاء على العجز التجارى الأمريكى (566 مليار دولار فى عام 2017) يمكن تحقيقه بواسطة فرض رسوم عقابية على صادرات الدول الأخرى وليس من خلال تعزيز وزيادة الصادرات الامريكية. وهذا الرقم للعجز التجارى هو الأعلى منذ 2008، على الرغم من أن الإدارات الأمريكية السابقة (جورج بوش الابن وأوباما) فرضت قيودا حمائية ضد صادرات الدول الأخرى، خصوصا من الصلب تحت مبررات الحماية من الإغراق أو الدعم. لقد فشلت تلك الإجراءات فى تغيير الوضع، واستمرت زيادة العجز، ليس لأن الإجراءات لم تكن كافية، ولكن لأن الصناعات الامريكية نفسها فشلت فى أن تتغير إلى الأفضل. وتبدو المشكلة الأعظم فى أن هذا العجز التجارى للولايات المتحدة يتركز مع بلد واحد فقط فى العالم اسمه جمهورية الصين الشعبية! لقد بلغت قيمة العجز مع الصين وحدها فى العام الماضى 375 مليار دولار بنسبة 66% من العجز التجارى الكلى للولايات المتحدة. هنا يعتقد ترامب أن الصين هى العدو التجارى الرئيسى للولايات المتحدة، ومن ثم فإنها تصبح هدفا مشروعا لسياسات تجارية انتقامية تهدف للحد من صادرات الصين إلى الولاياتالمتحدة. لماذا الصلب والألومنيوم؟ تعانى الولاياتالمتحدة أزمة طاحنة فى هاتين الصناعتين على وجه الخصوص. وبعد أن كانتا عماد النهضة الصناعية والاقتصادية أصبحتا عبئا ثقيلا على النمو وعلى التوازن التجاري. وتسود حالة من القلق فى أوساط العاملين فى هاتين الصناعتين، وكذلك فى أوساط المديرين والمساهمين الرأسماليين فيها بسبب الخسائر، وانكماش الصناعة. ولبيان مدى الخسائر التى تعرضت لها صناعة الصلب الأمريكية فى العقود الأخيرة منذ سبعينيات القرن الماضى حتى الآن، يكفى أن نعرف أن عدد العاملين فى هذه الصناعة حاليا يعادل تقريبا خُمس ما كان عليه (21.5%)، فقد انخفض العدد الى 140 ألف عامل مقابل 650 الفا فى السبعينيات. ولم يكن هذا الانخفاض نتيجة رئيسية لتطورات تكنولوجية فى الصناعة، وإنما كان على العكس بسبب فشل الصناعة فى الاستجابة للتغيرات التكنولوجية مما أدى الى فقدانها القدرة على المنافسة، فخسرت أسواقها المحلية. وهذه هى النتيجة الأساسية الأولى لفقدان القدرة التنافسية، فالصناعة، أى صناعة، تكون قوية تنافسيا بمقدار قوتها التنافسية المحلية وليس بمقدار القيود الحمائية أو المزايا المالية والفنية والإدارية التى تتمتع بها محليا. وبسبب تراجع القدرة التنافسية لصناعة الصلب الأمريكية، عمد الصناعيون الأمريكيون والمستثمرون إلى تصفية مراكزهم والهجرة لإقامة استثمارات فى بلدان اخرى مثل كندا والمكسيك والبرازيل. وتنتج الاستثمارات الأمريكية فى صناعة الصلب الكندية وحدها على سبيل المثال نحو 70% من الصلب الذى تحتاجه الولاياتالمتحدة! وتحتل كنداوالبرازيل وكوريا الجنوبية والمكسيك وروسيا المراكز الخمسة الأولى بين الدول المصدرة الصلب إلى الولاياتالمتحدة، بينما تأتى الصين، وهى الهدف الرئيسى للرسوم الجمركية الانتقامى فى المركز العاشر! إن هذه الحقيقة تفسر استثناء كندا والمكسيك من الرسوم التجارية العقابية (25%) ذلك أن فرض هذه الرسوم يعنى فى حقيقة الأمر معاقبة المستثمرين الأمريكيين فى هاتين الدولتين! لكن فتح باب الاستثناءات شجع حاليا شركاء الولاياتالمتحدة الآخرين مثل المانيا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية على إدارة حوار فيما بينها لمواجهة الرسوم التجارية الأمريكية. وتتجه هذه الدول إلى اتخاذ موقف موحد ضد الولاياتالمتحدة. إن هدف ترامب هو الصين، هذا صحيح، لكن بندقيته تطلق رصاصها على كندا والمكسيك وكوريا الجنوبية وهى دول حليفة وعلى البرازيل، وهى إحدى القوى الصاعدة التى تريدها واشنطن أن تلعب دورا فى التوازن فى الأمريكيين، استعدادا لأى مواجهة مع الصين. إن ترامب يصيب حلفاء الولاياتالمتحدة فى مقتل بينما خصومه يقفون بعيدا عن مرمى نيرانه. لمزيد من مقالات إبراهيم نوار