ثمة أصداء لمقولات دينية وأفكار خلاصية تنطوى عليها الأصولية الإنجيلية، تتداخل مع الصهيونية الدينية عند نقطة ملتقى العقيدة الألفية القائلة بعودة المسيح لحكم العالم فى نهاية الزمان، وهو اعتقاد له جذور لاهوتية، ارتبط صعوده وهبوطه بالتحولات التاريخية. ففى بداية الكنيسة كان ثمة اعتقاد أخروى بعودة وشيكة للسيد المسيح، خصوصا فى القرن الأول الميلادى. ولأن فكرة نهاية الزمان كانت تمثل تهديدا لأمن الكنيسة فى العصور الوسطى، فقد حاربها القساوسة الأوائل الذين رفضوا التفسير الحرفى للتوراة، وفضلوا التفسير المجازى لها، قبل أن تحاربها الدولة نفسها منذ أصبحت المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية فى عام 380م. ويبدو أن القديس أوغسطين قد نجح فى وضع حد لهذه العقيدة فى كتابه «مدينة الله» عندما فسرها مجازيا باعتبارها حالة روحية وليست زمنية. وعلى هذا لم يكن الفكر الكاثوليكى يعتقد فى عودة اليهود إلى فلسطين، حيث ساد اعتقاد بأن الفقرات الواردة فى العهد القديم، والتى تشير إلى تلك العودة لا تنطبق على اليهود، بل على الكنيسة المسيحية. أما اليهود، طبقا للعقيدة الرسمية، فاقترفوا إثما طردهم الله بسببه من فلسطين إلى منفاهم فى بابل. وعندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر نفاهم ثانية، وبذلك انتهى وجود ما يسمى «الأمة اليهودية» إلى الأبد، وإن ظلوا، كأفراد، قادرين على تحقيق الخلاص الروحى من خلال اعتناق المسيحية. أما نبوءات عودة اليهود فكانت تُؤول على أنها عودة من المنفى فى بابل، وقد تحقق ذلك فى القرن السادس قبل الميلاد حين أعادهم القائد الفارسى قورش إلى فلسطين. أما الفقرات الأخرى التى تتنبأ بمستقبل مشرق لإسرائيل، فكانت تُحمل على «إسرائيل الجديدة»؛ أى الكنيسة المسيحية التى كانت تُعتبر «إسرائيل الحقيقية» التى ورثت اليهودية. حتى ذلك الوقت، كانت الكنيسة قد أبقت اللغة اللاتينية حية، وكانت تنظر إلى دراسة العبرية كبدعة يهودية أو تسلية للهراطقة، اتخذت خطوات عنيفة لاجتثاثها طوال القرون الوسطى. لكن الأمر تغير منذ عصر النهضة، فأصبح طلاب العلم يتقنون العبرية مع اللاتينية واليونانية، وسرعان ما أصبحت معرفة العبرية جزءا من الثقافة الأوروبية العامة. أما حركة الإصلاح البروتستانتى فجعلتها جزءا من المنهج الدراسات اللاهوتية. وعندما تُرجم الكتاب المقدس إلى اللغات القومية المختلفة، عقب ترجمة مارتن لوثر إلى الألمانية، أصبح ما ورد فى العهد القديم من تاريخ، ومعتقدات، وقوانين العبرانيين، وأرض الميعاد، أمورا مألوفة فى الفكر الغربى، وغدت قصص وشخصيات العهد القديم مألوفة، بل عاد يسوع نفسه إلى مكانه فى المخيلة المسيحية باعتباره نهاية سلسلة طويلة من الأنبياء العبرانيين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين صاروا محلا للتبجيل بديلا عن القديسين الكاثوليك. وقد انتقل الإحياء العبرانى هذا من أوروبا إلى العالم الجديد عبر حركة الكشوف الجغرافية، ففى رحلته إلى أمريكا كان كريستوفر كولومبس على ثقة فى أنه قارب الوصول إلى الفردوس الأرضى. كما كان يؤمن بأن النبوءة المتعلقة بنشر الإنجيل فى كل بقاع الأرض لابد أن تتحقق قبل نهاية العالم الذى لم يكن يومه ببعيد؛ وأن ذلك اليوم سوف يسبقه افتتاح القارة الجديدة، واعتناق الوثنيين المسيحية، والقضاء على المسيح الدجال، كما كان يعتقد أن اكتشافه سوف يقود فى النهاية إلى تحرير القدس من المسلمين وإعادة بناء المعبد، وأنه سوف يستخدم الذهب الذى يجده فى العالم الجديد لإعادة بناء الهيكل كمركز للعالم و«حلمة» للكرة الأرضية. ومن ثم شرع المستعمرون الأوائل، بوصفهم شعباً مختاراً، ينظرون إلى رسالتهم فى العالم الجديد باعتبارها مرحلة جديدة من التاريخ سوف تشهد بزوغ فجر الإنجيل وشروق شمسه فى انجلترا الجديدة (نيو إنجلاند). ومع أن العقيدة الألفية لم تسد فى أوساط البروتستانتية الرئيسية، فإنها تسربت إلى أوساط الجماهير، واستمرت فى استقطاب الأنصار حتى بلغت ذروتها مطلع القرن العشرين، فى مذهب العصمة الحرفية للكتاب المقدس، بين المسيحيين الإنجيليين الذين يؤمنون بسفرى دانيال، وحزقيال فى العهد القديم، ورؤيا يوحنا فى العهد الجديد، وجميعها تبشر بالعودة الثانية للمسيح، حيث يعود اليهود، بعد فاصل طويل من الاحتقار، إلى موقع الشعب المختار الذى تبقى عودته إلى أرض الميعاد، وقيامه ببناء الهيكل، بشارة العصر الألفى السعيد. وهنا تقبع إسرائيل فى قلب خطة الرب لنهاية التاريخ؛ فمع خراب أورشليم وتدمير الهيكل عام 70م اتجه الله إلى الأمم ليقيم علاقة مباشرة معها، ولكن مع المجىء الثانى للمسيح ينتهى زمن الأمم، ويعود الله مرة ثانية إلى إسرائيل وحدها. ورغم أن المسيح رفض تأسيس ملك أرضى، وهو ما دعا اليهود إلى رفض نبوته، فإن مجيئه الثانى سيكون تلبية لحلمهم القديم فى مسيا مسلح بالقوة والعنف، وبهذا تعود المسيحية إلى الشجرة الأم، وكأنها ليست إلا مرحلة وسطى تنتهى بانتهاء مهمتها، مع عودة المسيح لمواجهة قوى الشر فى العالم، وهزيمتها لصالح الشعب المختار، فى موقعة دموية قاسية يُقتل فيها ثلثا العالم، وبعد الانتصار يقوم المسيح بحكم العالم ألف عام. وعلى العكس من ذلك، يرى المسيحيون الإنجيليون أن عودة اليهود إلى أرض الميعاد ليست انتصارا لليهودية، بل مجرد حدث تدشينى يمهد لتحولهم إلى المسيحية، ومن ثم تنشأ «المسيحية الصهيونية» التى تدفع نحو تمكين اليهود «مؤقتا» فى أرض الميعاد، باعتبارها نقطة انطلاق خطة الرب نحو الخلاص التاريخى ونظام السعادة الألفى. ولأن الهيكل لم يبن بعد، والمسيح لم يعد حتى الآن، فإن لحظة الصدام تبدو مؤجلة، كما يبدو تعضيد إسرائيل، منذ سبعينيات القرن العشرين؛ وكأنه لاهوت سياسى أمريكى حيث تشكل اليمين السياسى المحافظ على قاعدة اليمين المسيحى كقاعدة قوية للحزب الجمهورى. وفى موازاة ذلك نسجت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية على منوال استثنائى، حيث جرى النظر لإسرائيل كولاية أمريكية، واعتبر أمنها جزءا من الأمن القومى الأمريكى، وحمايتها هدفا أساسيا، بل إن جميع السلوكيات العدوانية التى قامت بها إسرائيل من حروب هجومية، وتوسعات استيطانية، وصولا إلى محاولة قضم القدس، عاصمة الروح الإنسانية والديانات الثلاث الإبراهيمية، قد لاقت تأييدا لا يمكن تفسيره إلا على قاعدة تلك الأسس العاطفية والدينية لدى الإنجيليين الأمريكيين. [email protected] لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم