فى الأسبوع الماضى احتفل العالم عيد الحب الذى يسمى بعيد الفلانتين. وقد كان لهذا الاسم قصة حقيقية حدثت عام 269م لروما وقت حكم الإمبراطور كلوديوس الثانى الذى أراد أن يجمع جيشا قويا من الشباب يرسله إلى منطقة متمردة ليخصعها، فرفض الشباب الانصياع لأوامره بالانضمام إلى الجيش لأنهم كانوا سيتركون زوجاتهم وأسرهم لفترة طويلة. فأصدر الإمبراطور قراراً بعدم زواج الشباب حتى يضمن انضمامهم إلى الحرب، وساد الحزن بين الشباب لأنهم سيحرمون من الارتباط بمن أحبوهم. ولكن قام أحد الكهنة المسيحيين وهو الشهيد فلانتينوس بتحدى أوامر الإمبراطور وقام بعمل مراسم الزواج للشباب بالكنيسة. ولما علم الإمبراطور قبض عليه وسجنه ثم قطع رقبته بالسيف. فاعتبر شباب الإمبراطورية أنه شهيد للحب المقدس، وصار اللون الأحمر هو اللون السائد فيه لأن دمه سال لأجل إتمام عمل الزواج بين الأحباء. وصار هذا اليوم هو عيد الحب الذى فيه يتبادل البعض كلمات التهنئة، والبعض يرسل الورد وما شابه ذلك تذكاراً للحب. فى زمن صار الحب مجرد ذكري، وصار الحب له أيام ويعبر وليس حياة كاملة يعيش فيها الجميع بحب. وأردت أن أكتب عن الحب بعدما يمر هذا اليوم كى أعرف ماذا فعلنا فيه لنحب؟ ماذا تغير فى سلوكنا لنقول لبعض إننا نحب؟ هل فكرنا فى أن تكون بيوتنا هى أحضان تشع بالحب، فيتعلم أولادنا أن الحب هو عمق الإنسانية وأساس وجودها؟ هل أحببنا الوطن فأخلصنا فى العمل وصار الحب مكان القانون كما يقول سقراط: «لو ساد الحب وسط الناس لما احتجنا إلى قانون». هل أحببنا الحياة ونشرنا الحب وسط أعدائنا ليموت فى داخلهم مرض الكراهية، والبغض، والخيانة؟ تخيلوا لو أن الجميع أحب الجميع، لو أن الحب صار فى الهواء الذى نتنفسه، فى مائدة الطعام الذى نأكله، فى شركة الحياة مع بعض فى الشوارع، فى العمل، فى المدارس، فى البيوت. فيقول سقراط: «إن الحب هو دافع الخير وسر السعادة». ويقول أدلر عالم النفس: «كل إخفاق بشرى هو نتيجة عدم الحب». ويقول إيريك فروم: «إن الحب غير المشروط هو ما تتوق إليه الإنسانية». تُرى ما حال البشرية لو أحب الجميع حتى الأعداء؟ ولقد طلب السيد المسيح منا فى وصاياه وقال: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لأنه لو أحببتم الذين يحبونكم فقط فأى أجر لكم»، «من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك أعطه الرداء أيضاً... من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك لا ترده». هذه هى الإنسانية التى خلقها الله وأحب صنعة يديه فيها لأنها من الحب كانت وإلى الحب ستكون. لذلك الحب هو دافع الحياة الحقيقية، هو المحرك للوجود، هو فعل الخير ومعنى الحق، هو ملامح الجمال فى النفوس. الحب ليس كلمة استهلاكية أو حروفا مزيفة يقولها أحمق ليجذب بها عقول الآخرين لرغبة ما أو لتحقيق شهوة رخيصة. وإن كان الله هو المحبة فتكون القداسة فى أقوى صورتها هى الحب. الحب هو قوة جبارة لبناء عالم الحقيقة. فيقول أفلاطون: «قدموا لى جيشاً من المحبين وأنا أغزو العالم كله وأنتصر». ويقول الكاتب الروسى أنطون تشيكوف: «الحب هو قوة غير محدودة فى الإنسان، والإنسان المحب هو المتفائل القادر على خوض متاعب الحياة فى جرأة وشجاعة، وهو الذى يملك الاستعداد للتضحية بنفسه عند الضرورة دون خوف أو تردد». لذلك الحب فى أسمى معانيه هو صورة الأم التى تتعب طول النهار لتعمل طعام أسرتها، فى الأب الذى يضحى بكل عمره يوماً بعد يوم لكى يوفر لأسرته حياتهم ومتطلباتهم، الحب هو ذلك الجندى الذى ينام فى العراء ويترك دفء البيوت فى ليالى الشتاء الباردة ويحمل سلاحه ليحمى حدود البلاد. ولينام من لا يعرفهم ولا يعرفونه فى الوطن آمنين. الحب هو من يزيل حجراً فى الشارع كى لا يصطدم به آخر لا يعرفه. وحين يدار العالم بمنطق الكراهية، والاستغلال يكون الحب ضرورة للحياة. وحين يحيط بنا من يحملون الموت دون سبب سوى شهوة السلطة والاستغلال يكون نشر الحب هو الحل الوحيد لمواجهة الكراهية والموت. لذلك أدعو أن نُدرس الحب فى المدارس، أن يدرج فى التعليم منهج عملى للأطفال فى كيف يحبون الآخر حتى وإن اختلفوا فى الدين أو المستوى الاجتماعي. فلنُعلم أولادنا كيف يكون الحب هو الضمير الداخلي، وهو الدافع لكل بناء فى الوطن. فالذى يحب لا يسرق، لا يقتل، لا يخون، لا يضمر شرا، لا يجرح أحدا. بل يبني، ويسند، ويحمل آلام الآخرين. الحب هو سلام القلب وشعاع النور فى الروح، هو استنارة العقل وعمق الوجود البشري، هو بصمة وجود الله فى إنسانيتنا. قيل إن الفنان ليوناردو دافنشى حين كان يرسم صورة العشاء الأخير للسيد المسيح فى مرسمه، وفيما هو مستغرق فى الرسم دخل عليه أحد جيرانه ودار حوار انتهى بشجار عنيف حتى إن الفنان المرهف الحس والمستغرق فى رسم أيقونته الخالدة اضطرب جداً وقذفه بالألوان التى كانت أمامه. وتدخل آخرون وأنهوا الشجار. وعاد مرة أخرى ليستكمل لوحته فلم يستطع أن يمسك الريشة ولا أن يضع خطاً واحداً فى اللوحة. وأخذ يحاول ويحاول حتى توقف وترك الريشة والألوان وخرج إلى الخارج وأخذ يبحث عن جاره حتى وجده واعتذر له وتصالح معه. ثم عاد إلى مرسمه فوجد نفسه قادراً على أن يبدع من جديد. أحبائى الحب نعطيه لبعض مجاناً ويعطينا سعادة لا تقدر بثمن، وحين يمر العمر بلا حب تُرى متى نحب؟ فلنقرع أجراس المحبة فى عالمنا الغارق فى الكراهية، ولنجعل الحب هو قانون عالمنا الخاص علنا نستطيع أن نعيش فيه. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس