هناك فى مصطلحات علم الاجتماع ما يُعرف ب «العقل الجمعي»، وهو مصطلح كان عالم الاجتماع الفرنسى إميلى دوركايم أول من استخدمه. يعنى هذا المصطلح مجموعة المعايير والقيم التى يتفق عليها أعضاء جماعة معينة. تُترجم هذه المعايير والقيم فى صورة سلوك يقوم به أحد- أو مجموعة- أعضاء هذه الجماعة فتوافق عليه الناس دون تفكير أو مناقشة. هذه الصفة التسليمية هى ما رأى البعض فيها عيباً كبيراً، إذ إنها قد تكرس للعادات والتقاليد الخاطئة والتى يكون فيها ضرر لبعض فئات المجتمع مثل عدم إنصاف المرأة فى التعليم أو الميراث أو فرص العمل. من هنا لم يكن من الضرورى للعقل الجمعى أو السلوك الذى يترجم ما يقبله العقل الجمعى أن يكون دائماً صحيحاً. العقل الجمعى فى مصر- على الرغم من هذا الجانب السلبى الذى يتصف به- كان يقوم عبر العقود الماضية بدور إيجابى فى الحفاظ على قيم المجتمع وعاداته وتقاليده وفى التمسك بها، من هنا جاءت أهميته، ذلك أن هذا الدور لا يمكن للقانون أن يقوم به. فعلى سبيل المثال لم يكن يجرؤ شاب فى ستينيات أو سبعينيات القرن الماضى على تدخين سيجارة فى إحدى وسائل النقل العام. كان يهب له عدد غير قليل من الركاب ينهرونه. هذا السلوك من هؤلاء الركاب هو السلوك الذى كان يمثل قيم العقل الجمعى آنذاك. كذلك لم يكن من السهل لمجموعة من الشباب أن تستطيع بسهولة تأجير شقة سكنية فى عمارة سكنية تقطنها مجموعة من الأسر، كذلك كانت صورة المعلم فى كل المراحل الدراسية صورة يغلفها الاحترام والتقديس بشكل يختلف تماماً عما هى الآن. هذا العقل الجمعى هو أيضاً ما حرك جموع الشعب فى ثوراته المتكررة على الاستعمار، وهو ما حرك الشعب المصرى بل والعربى كله للوقوف صفاً واحداً فى حرب 1973 مثلاً. المقصود أنه العقل الجمعى الذى يجعل السلوكيات المعبرة عنه مقبولة من الجميع، وهو أيضا ما يجعل أفراد المجتمع تهب هبة رجل واحد ضد أى شخص يظهر سلوكاً يخالف ما اعتادوا عليه ويمثل تقاليدهم. ماذا حدث الآن؟ غلبت الفردية وأحيانا الأنانية- الجماعية، وكادت الايجابية أن تختفي. يلتف مجموعة من الشباب حول مجموعة فتيات ويتحرشون بهن فى وضح النهار، ولسان حال المارة يقول «مالناش دعوة». حادثة تكررت فى السنوات الأخيرة ولم يقمعها إلا صدور القانون سنة 2014 الذى وضع تعريفاً واضحاً للتحرش وجعل عقوبته الحبس والغرامة معاً ووجود الشرطة فى أماكن التجمعات وأثناء الأعياد. كذلك فإنه بعد أن كان الجار هو الحامى لجاره فى وجوده وفى غيبته، أصبح من الأفضل للجار ألا يعرف عن جاره شيئاً. لا يكاد الناس القاطنون عمارة سكنية واحدة يلقون التحية على بعضهم البعض إذا ما التقوا مصادفة، أو يعرف بعضهم أسماء بعض. ما حدث باختصار هو أن العقل الجمعى الذى كان حامياً للأخلاق والقيم الايجابية قد اختفى أو تعطل واختفت معه السلوكيات المعبرة عنه، فتدهورت الأخلاق، وأضحت الإساءة أمراً سهلاً لا يخاف الاتيان بها الراغب فى فعلها، إذ إنه قد أمن من وقوف المجتمع المحيط به ضده، سواء كان هذا المجتمع هو مجتمع العمل أو السكن أو المارة المشاهدين لحدث ما. وإذا كانت السلوكيات المترجمة للعقل الجمعى تظهر بصورة أكثر كثافة فى القرى عنها فى المدن، وفى الوجه القبلى عنها فى الوجه البحري، فإنه يمكن القول باطمئنان أنها آخذة فى الاختفاء هنا وهناك، فلم يعد هناك ما يمكن القول أن هذه هى القيم الايجابية للمجتمع الآن، وبالتالى لم يعد هناك ما يمكن القول أنه العقل الجمعى الممثل لها. من هنا فإنه لما كان المصريون فى هذه الأيام يأملون فى إحداث نهضة على كل الأصعدة، ولم تكن هناك نهضة حقيقية دون قيم إيجابية توجهها، كانت مصر فى أمس الحاجة إلى البحث فى أسباب هذا الخمول أو التعطيل الذى أصاب العقل الجمعى وإعادة تنشيط هذا العقل الجمعى تنشيطاً إيجابياً موجهاً، عقل جمعى لا يعيق عن التفكير الناقد أو الإبداع ولا يجعل الجميع يركنون إلى ما يراه المجموع ولو كان خاطئاً، عقل جمعى للمجتمع يقوم فيه المفكرون وعلماء الاجتماع بدور أساسى فى فحصه فحصاً دورياً لتنقيته من جوانبه السلبية وإظهار ضررها للناس واحلال جوانب إيجابية محلها وتغذيته بما يجعل منه طاقة إيجابية تعيد للمجتمع الأخلاقيات والقيم التى لا غنى عنها فى إحداث كل أشكال التقدم. أستاذ الفلسفة جامعة المنيا لمزيد من مقالات د. بهاء درويش