يخالجنى شعور محزن فى أزمة القدس الحالية بأن أعداءنا كانوا أكثر نفعا للقضية منا نحن وأشقائنا، فقد استطاع الرئيس الأمريكى الأهوج دونالد ترامب بالإعلان عن اعترافه رسميا بالقدسالمحتلة عاصمة لإسرائيل أن يعبئ العالم كله للدفاع عن الشرعية الدولية فى فلسطين، ولإعلان الرفض القاطع لقبول الأمر الواقع الذى تفرضه اسرائيل فى الأراضى العربية المحتلة، والذى اتخذه ترامب مبررا للاعتراف بسيادتها على القدس، والتى هى سيادة الاحتلال التى تحظر القوانين الدولية ضمها أو تغيير طبيعتها الجيوبوليتيكية. وفى الوقت نفسه وجدنا الرئيس التركى رجب أردوغان حامى حمى جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية ينتهز غباء القرار الأمريكى ليسعى لزعامة العالم الإسلامي، وليحيى حلمه البالى بإحياء الخلافة العثمانية التى عفى عليها الدهر، فاستغل رئاسته الحالية للمؤتمر الإسلامى ودعا لاجتماع قمة فى إسطنبول خرج منه المجتمعون بإعلان القدس عاصمة للدولة الفلسطينية. وكنت قد كتبت فى هذا المكان فى الأسبوع الماضى مطالبا جامعة الدول العربية بالدعوة لاجتماع قمة يخرج بإعلان القدس رسميا عاصمة للدولة الفلسطينية التى أصبحت تعترف بها الغالبية العظمى من دول العالم، لكن أردوغان كان أسبق من الجامعة العربية، وقد كان لإعلان الدول الاسلامية اعترافها بالقدس عاصمة لدولة فلسطين نتائج مهمة حيث سددت للاعتراف الأمريكى المشئوم ضربة موجعة، فالمجتمعون فى اسطنبول كانوا يتحدثون باسم مليار ونصف المليار من سكان هذا العالم موزعين على دول القارتين الأفريقية والآسيوية. أما على الجانب الأوروبى وهو الجناح الذى يضم أقرب حلفاء الولاياتالمتحدة فى العالم فقد أسهم قرار ترامب الأهوج وغير المدروس فى بلورة موقف أوروبى موحد من قضية القدس لم يعبر عن نفسه بهذا القوة والوضوح من قبل، وقد انعكس ذلك فى التصريحات التى أعلنتها فيديريكا موجيرينى ممثلة الاتحاد الأوروبى للعلاقات الخارجية، والتى قالت بلا مواربة إن الاتحاد الأوروبى يرى القرار الأمريكى مخالفا للقرارات الدولية، وأن موقف الاتحاد الأوروبى من القدس هو أنها محتلة، وأن أى تغيير لوضعها يجب ألا يكون خاضعا للقرارات الأحادية، ثم قالت بالحرف الواحد: لقد أعرب بنيامين نيتانياهو عن أمله فى أن تحذو بقية دول العالم حذو الولاياتالمتحدة فى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فليأمل رئيس الوزراء الإسرائيلى كما يشاء لكن ذلك الاعتراف لن يأتى من أوروبا!. والحقيقة أن تلك العزلة التى وضع الرئيس الأمريكى بلاده فيها لم يشهد العالم لها مثيلا منذ عقود مضت، وقد أسهم فى بلورتها من جانب الدول الأوروبية من خلال اجتماع مجلس الأمن الدولى الذى انعقد لبحث هذا الأمر بطلب من السويد، وأسهم فى بلورته من جانب آخر كافة الدول الإسلامية من خلال المؤتمر الإسلامى الذى انعقد فى اسطنبول، وهكذا بدا الموقف الأمريكى فى جانب وموقف بقية دول العالم فى جانب آخر، بما فى ذلك أقرب حلفاء الولاياتالمتحدة، ففى انجلترا تعالت الأصوات المهاجمة للقرار الأمريكي، هو ما دفع الحكومة لأن تعلن رسميا رفضها القرار، وطالبت إيميلى ثورنبيرى وزيرة الخارجية فى حكومة الظل رئيسة الوزراء تيريزا ماى بالكف عن مسايرة السياسة الأمريكية «التى تجعلنا نبدو كالحمقي»، وبضرورة التصدى لسياسات الرئيس الأمريكى غير المدروسة. وقد أدى كل ذلك الى تعاظم الدعم الدولى للقضية الفلسطينية، ولوضع القدس كمدينة مقدسة للأديان الثلاث وليس لليهودية وحدها، وسلط هذا الدعم بدوره الضوء بشكل واضح على قضية الاحتلال، وأعاد تأكيد أن إسرائيل دولة احتلال، وأن الشعب الفلسطينى هو الشعب الوحيد فى العالم الذى مازال يقع تحت الاحتلال الذى ولى زمانه، ووجدت بعض الدوائر السياسية الغربية الداعمة للحق العربى أن الغضب الذى ولده قرار ترامب فى العالم هو فرصة سانحة لدعوة الحكومات التى لم تعترف بعد بالدولة الفلسطينية بأن تفعل ذلك، فوقف ممثل القوى التقدمية البلجيكية فى البرلمان منذ أيام يصف قرار ترامب بأنه بمثابة إعلان حرب ضد الشعب الفلسطينى المحتل لأنه يسعى لإضفاء الشرعية على الاحتلال وعلى سياسة التمييز العنصرى التى تتبعها إسرائيل ثم ذكر بالقرار الذى اتخذه البرلمان البلجيكى عام 2015 بأغلبية واضحة، والذى يطالب الحكومة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية فى الوقت المناسب وقال النائب البلجيكي: إن لم يكن الوقت الحالى هو الوقت المناسب فمتى يكون؟. ومن النتائج المهمة والمباشرة لقرار ترامب الذى خرق به كل قرارات الأممالمتحدة المتعلقة بالقدس وبالأراضى العربية المحتلة، أنه أسقط مصداقية الولاياتالمتحدة فى القيام بدور الوسيط فى محاولات التسوية فى الشرق الأوسط، فقد أوضحت واشنطن بهذا القرار أنها غير محايدة، وأنها تصدر من القرارات بشكل منفرد ما يحقق مصالح طرف واحد، على حساب الطرف الآخر الذى أقرت بحقه كافة القرارات الدولية الصادرة فى هذا الشأن، وخاصة القرارات 476 و478 لسنة 1980، والقرار 2334 لسنة 2016 الصادرة من الأممالمتحدة، وذلك فى الوقت الذى كان ترامب يستعد لطرح مبادرته لإنهاء النزاع الاسرائيلى الفلسطيني، والتى سميت صفقة القرن، وقد كانت تلك المبادرة تقوم على إعلان دولة فلسطينية صورية منزوعة السلاح فى أجزاء متفرقة وغير متصلة من الأراضى الفلسطينية، وهى خطة تفاوض ترامب بشأنها مع الجانب الاسرائيلى ولم يؤخذ فيها رأى الجانب العربي، وكان زوج ابنة ترامب جاريد كوشنر هو الوسيط فيها وقام فى هذا الشأن بعدة زيارات للمنطقة، وقد كان قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل واعتزام نقل السفارة الأمريكية إليها، هو الرصاصة التى أطلقها ترامب نفسه على مبادرته قبل أن تخرج الى النور. ومن ناحية أخرى أسهمت مشاعر الغضب من قرار ترامب فى إعادة التأكيد مرة أخرى وبشكل أقوى على سياسة الأبارتيد التى تتبعها اسرائيل والتى كانت قد انتهت من العالم كسياسة رسمية بسقوط حكومة التمييز العنصرى فى جنوب إفريقيا عام 1993. وهكذا تكون حماقة الرئيس الأمريكي، وانتهازية الرئيس التركي، قد أفادتنا من حيث لا يحتسبون، أفلا يحق لنا الآن أن نبنى على هذه المكاسب التى منحها لنا أعداؤنا؟. لمزيد من مقالات ◀ محمد سلماوي