ربما كان الأمر الوحيد محل الاتفاق بشأن واقع مهنة الإعلام هو التراجع المثير للدهشة والأسى الذى بلغته مهنة صناعة الوعى والتنوير والبحث عن الحقيقة. كل ما عدا ذلك قابل للجدل واختلاف الرأى مثل كيف ومتى ولماذا حدث هذا التراجع وتساؤلات أخرى كثيرة. أسجل ابتداء ثلاثة تحفظات واجبة أولها أننى أتحدث هنا عن المهنة وليس بالضرورة عن الإعلاميين، وثانيها أن التعميم غير وارد لأنه بذاته نقيصة منهجية ولأنه فى الواقع غير منصف إذ مازال لدينا كفاءات إعلامية رفيعة المستوى هنا أو هناك لكنها تظل هى الاستثناء الذى لا يجوز القياس عليه.وثالثها أن رصد السلبيات أمر صحي، فالمجتمعات الحيّة الواثقة لا تخجل من النقد، والشعوب الطموحة الناجحة ما تقدّمت إلا لأنها نظرت إلى النصف الفارغ من الكوب قبل أن تنظر إلى نصفه الملآن. لم نكن نحتاج فى الواقع إلى متابعة الإعلامية اللبنانية »بولا يعقوبيان« فى حوارها المثير مع السيد سعد الحريرى حتى نعرف أن المهنة لدينا تعانى من أزمة عميقة. ربما كانت أجواء الإثارة السياسية المحيطة بالقضية موضوع الحوار هى ما سلّط الأضواء أكثر على ذكاء ومهنية وتهذيب الإعلامية اللبنانية لكن المسألة هنا تجاوزت حدود السياسة والإثارة لتمس فى العمق أصول مهنة الإعلام ذاتها. والحقيقة التى نحتاج إلى التذكير بها هى أن الإعلام مهنة مثل أى مهنة أخرى لا تستقيم بدون معايير. والمعايير المهنية الإعلامية ليست بدعة أو سراً أو موهبة خارقة أو جمالاً أخّاذاً لكنها ببساطة مجموعة مقومات يجب ممارستها وتوظيفها وفقاً لأصول ومناهج تراكمت وتنوعت واستقرت حتى أصبحت تشبه الأبجديات. فلا يُتصور مثلاً أن يحترف مهنة الإعلام من يفتقر إلى إجادة اللغة العربية والإلمام بأساسيات الثقافة العامة والتاريخ والسياسة الدولية، أوَ هكذا يبدو لى الأمر. لست أشك أن لدى شيوخ المهنة وأهل التخصص أكثر مما لديّ من ملاحظات أو انتقادات، والمؤكد أيضاً أن لديهم من التصورات والرؤى لإصلاح الواقع الإعلامى أكثر وأعمق مما لديّ، ولأعترف أن مهنة الإعلام ليست وحدها التى تعانى من أزمة فى ظل حقيقة تراجع وتدهور المعايير والأصول فى معظم إن لم يكن سائر المهن فى حياتنا. ولهذا لا أعرف كيف يكون الإعلام إعلاماً إذا لم يكن لدينا وسيلة للبحث والكشف عن الكفاءات الإعلامية الحقيقية سوى الوساطة والمحسوبية والشللية ومزاجية رأس المال الإعلامى وجمال التماثيل الأنثوية التى قد تصلح باقتدار للعمل كموظفات أو مديرات علاقات عامة واستقبال فى بنوك أو مؤسسات أو فنادق كبرى بأكثر مما يصلحن لصناعة الوعى وتنوير الناس والبحث عن الحقيقة. بغير هذه التساؤلات لا يمكننا مثلاً استيعاب الفضيحة المهنية حين قامت إحدى مقدمات البرامج بطرد أحد الأكاديميين المؤرخين الثقات من برنامجها على مرأى من ملايين المشاهدين. كانت الإعلامية إياها وليس غيرها السبب فى «توتير» الحوار بأسئلتها التى كشفت عن قدر مخجل من الجهل والادعائية والغرور وعدم التهذيب وانعدام أدنى درجات الكفاءة المهنية. من هنا التساؤل بأى معاييرٍ مهنية تم تعيين هذه الإعلامية؟ وأى لجنة خبراء أو موارد بشرية قامت باختيارها؟ لا أعرف كيف يكون الإعلام إعلاماً فى ظل افتقار الحد الأدنى المعقول من إجادة اللغة العربية. محاولة التمظهر بنطق بعض المفردات الفصيحة لا يعنى بالضرورة إجادة اللغة العربية، هذه الإجادة التى نلمسها لدى الإعلاميين اللبنانيين مثلاً الذين يملأون عن مهنية وجدارة نحو 80% من شاشات أهم الفضائيات العربية مع أن عدد سكان لبنان لا يتجاوز الأربعة ملايين نسمة ونحن ندنو من المائة مليون! أرجو ألا اُسئ إلى أحد حين أقول إن أكثرية مقدمى النشرات الإخبارية والبرامج لدينا يبدون كالهواة عند مقارنتهم بنظرائهم من العرب الذين يزينون شاشات الفضائيات العربية ويشنّفون آذاننا بحسن نطق مخارج الحروف، وامتلاك ناصية التعبير وسلامته، والتمكن من قواعد النحو. هنا السؤال الذى لا يُجدى ولا يليق تجاهله من المسئول وما السبب فيما آل إليه حال العربية على ألسنتنا بل على ألسنة أرباب مهنة احتراف «الكلام» ؟ هو ولا سبب غيره، تراجعا مستوى تعليم اللغة العربية فى مدارسنا، تراجع بلغ بلا مبالغة حد الانحطاط اللغوي. لا أعرف أيضاً كيف يكون الإعلام إعلاماً حين يصبح مقدم برنامج حوارى متحدثاً وحيداً على مدى ساعة وساعتين بصورته وصوته، برأيه ورؤيته، ليناقش نفسه ويتحاور مع نفسه فى استعراض موسوعى لا يجرؤ عليه المتخصصون أنفسهم. تحوّلت البرامج الحوارية فى فضائياتنا إلى ما يشبه المحاضرات وجلسات الوعظ والإرشاد. بالطبع يوجد مقدمو برامج موهوبون وقادرون على جذب انتباه المشاهد لكن قد يكون هذا مناسباً فى برامج للمنوعات أو المسابقات أو الترفيه لكنه يبدو غريباً فى برامج تناقش قضايا اجتماعية أو فكرية أو سياسية تكون مهمة مقدم البرامج فيها هى »إدارة« الحوار وليس القيام بالحوار ذاته وإلا فإننا نصبح بصدد »مونولوج« أو محاضرة. أما بدعة إجراء الحوار بين الإعلامى والمشاهدين فإنه وبصرف النظر عن قدر المصطنع والمزيف فيها فهى تليق ببرامج الفوازير لا مناقشة قضايا مجتمعية تستوجب بالضرورة وجود متحاورين متخصصين ليستفيد المشاهد بالأساس. هل السبب فيما آلت إليه مهنة الإعلام هو عدم وجود معايير واضحة وجادة تفرضها النقابات أو الجهات المعنية بشأن الإعلام يتم على أساسها اختيار أصحاب المهنة ابتداء؟ أم هو غياب ثقافة التدريب المهنى المستمر الذى يستخف به البعض ويتكبّر عليه البعض الآخر مع أنه فى البلدان المتقدمة تُعقد دورات تدريبية حتى لرؤساء الجامعات أنفسهم وليس للمعيدين أو صغار المدرسين فقط ؟ هل هو رأس المال الإعلامى الذى يابى ألا يقتصر دوره على الملكية فيُقحم نفسه فى الإدارة ولو من خلف ستار فيشوّه مهنة الإعلام كما شوّه رأس المال المنتج مهنة الفن والسينما من قبل، وكما أقحم رأس المال نفسه فى الخطاب الدينى حين قام بصناعة وتسليع مهنة مقدّسة مثل الدعوة والفتوى الدينية التى أصبح لها ممولوها وسوقها التجارى ونجومها ومنتجاتها وأسعارها؟ أم تُرى نحن الذين تردّت أذواقنا وثقافتنا فأصبحنا نقبل على مثل هذا الإعلام ونسهم فى رواجه حتى أسهمنا عن غير قصد فى أن تصبح مصر- مخزن الكفاءات والمواهب- دولة من الدرجة الثانية إعلامياً فى محيطها العربي؟ وأخيراً ماذا عن الدولة؟ هل تعجز مصر وهى تعيد اليوم اكتشاف ضميرها ودورها القومى العروبى عن صناعة فضائية عربية إعلامية بالمعايير المهنية الاحترافية التى بدونها لا يكون الإعلام إعلاماً؟ لست أعرف. كل ما أعرفه أن مصر تستحق إعلاماً أفضل. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم;