فى الذكرى الرابعة والأربعين على وفاة طه حسين فى 28 أكتوبر 1973، نعود إلى هذا المقال المجهول الذى كتبه فى جريدة «السياسة الأسبوعية» فى 27 يوليو 1926، وأعيد نشره بعد عشر سنين فى كتابه «من بعيد» فى 1935، ثم فى 1958، وأخيرا فى العام الماضي، وفيه يعرض طه حسين تاريخ الصراع بين العلم والدين فى أوروبا، وأبعاد هذا الصراع فى مصر الحديثة، وذلك قبل أ كثر من سنة من محاكمته فى 30 مارس 1927، على ما جاء فى كتابه «فى الشعر الجاهلي» من خروج على الدين والأعراف. يكشف طه حسين فى هذا المقال الدوافع الكامنة وراء هذا الصراع. .................................... ولولا أن النائب العام محمد نور، الذى حقق مع طه حسين فى الاتهامات التى وجهت إليه، كان يتمتع باستنارة عقلية تضع العلم والدين فى النصاب الصحيح، لما برأت ساحته، وظل الاتهام سيفا مسلطا على الكثيرين، مادام لا يقابل بالحكمة التى قوبل بها من هذا النائب العام.سلم محمد نور، رئيس نيابة مصر، بما يقوله طه حسين فى التحقيق من أنه مسلم مؤمن بدينه، دون أن يشق صدره لكى يتأكد من صدقه، لأنه ليس موكولا بما يتجاوز حد الرد عليه، معلنا فى عريضة الحكم التى ينفى فيها القصد الجنائي، أن طه حسين يحذو فى كتابه حذو العلماء الغربيين، من أجل البحث العلمى لا من أجل أى شيء آخر. ويوفى هذا الحذو إلى أن طه حسين انصرف عن العلوم العربية القديمة التى درسها فى الأزهر، واتجه بكل حماسه إلى العلوم الغربية. ولولا أن هذا الاتجاه كان يستجيب لزمنه الحديث، وللشروط المعرفية والجمالية لانتاجه، لما قدر له أن يسود الدراسات الأدبية التى عقدت بعد هذا الكتاب، ومضت على خطاه. وكان حماس طه حسين للآداب الأجنبية ما بين الكتابة عنها وترجمتها أحد مظاهر التطور والتقدم الذى تدين به الثقافة العربية لهذا الرائد، حتى أصبح من لا يأخذ بالمناهج الحديثة فى الكتابة بكل أنواعها خارج التاريخ. وهكذا حفظ محمد نور اسمه فى كل الكتابات الموضوعية التى تتحدث عن منهج البحث واتاح به للقضاء المصرى أن يثبت للعالمين أنه منارة مضيئة يطمئن إلى نزاهتها كل من يجد نفسه ماثلا أمامها. ولن يهون من فضل محمد نور أن العبارات التى أخذت على طه حسين وتمر حذفها فى الطبعات التالية لكتابه كانت قليلة لأن التاريخ يذكر لنا أن جملة واحدة من ثلاث كلمات وردت فى ترجمة الباحث الفرنسى اتيان دولية لمحاورات أفلاطون فى القرن السادس عشر تشكك فى خلود الروح، كانت كفيلة بحرقه بمخطوط هذه الترجمة. ومع أن كتاب «فى الشعر الجاهلى» سحبت نسخه من السوق ومنع من طبعه منذ هذا الاصدار الأول، ففى تسعينيات القرن الماضى أعيد طبعه بنصه الأصلى، بلا حذف للفقرات التى تمر اسقاطها فى طبعة «فى الأدب الجاهلى» وهذا يعنى أن حياتنا الثقافية تقبلت بعد نحو نصف قرن حكم محمد نور ببراءة طه حسين وقامت بنشر كتابه كاملا، كما وضعه مؤلفه. ولعل أهم ما تضمنه كتاب «فى الشعر الجاهلى» منهجه الحديث الذى يراجع الموروثات، ويعقد المقارنات على خلفية المكونات الأساسية التى تقوم على الدين والسياسة والاقليمية، إن فى الأصول أو الفروع، معتمدا على الشك فى النصوص القديمة التى يراها منحولة، أى مصنوعة وصلتنا بالنقل عن طريق العنعنة، وليست نصوصا أصلية حقيقية وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بالتحرى والنقد والأدلة الاستقرائية التاريخية واللغوية. ولابد أن نذكر أن علم طه حسين الذى لا يضارع بالأدب العربى فى جميع عصوره، لا يقل عنه علمه بالأدب الشعبى الذى يدرك أن اضطراب خياله لا ينفى عنه جماله الفني. ولم تكن قضية «فى الشعر الجاهلى» التى يحتكم فيها طه حسين على صحة النصوص من داخلها، هى القضية الوحيدة التى خاضها، فقد أثير حوله فى وقت مقارب معركة حول كتاب «الأيام» وان كانت أخف فى الحدة، اتهم فيها بأنه نقله أو سرقه من كتاب «منصور» لأحمد ضيف الذى وضعه بالفرنسية فى 1922، ويروى فيه حكاية من يدعى منصور بالمنوال الذى نطالعه فى «الأيام» ولكنه كان اتهاما متهافتا، لأن بكتب السير الذاتية خصوصية لا يجدى معها النقل أو السرقة من غيرها. وهناك أيضا الحملة التى شنت على طه حسين لأنه أخذ بمنهج ديكارت فى الشك. ولم يكن أحد ممن شنوا هذه الحملة يعرف شيئا عن هذا الفيلسوف الفرنسى الخالد الذى يعد واحدا من أعلام كل العصور. أما عن الحركة الأدبية الواقعية التى نشأت مع ثورة 1952، فقد كانت تصف طه حسين بأنه من الأدباء الذين ينتمون إلى المدرسة التقليدية المحافظة، المناصرة للقديم، وتأخذ عليه ليبراليته ونزعته الفرعونية المقدمة على العروبية، بعد أن كان يوصف قبلها ليس فقط بأنه صاحب ثورة فكرية، وانما إمام من أئمة المجددين والثوريين. ولن تنسى الحياة الثقافية أن الشاعر العراقى بدر شاكر السياب فى المؤتمر الثانى للأدباء العرب الذى عقد فى بلودان بسوريا فى 1956، هاجم طه حسين فى حضوره، وطه حسين هو مؤسس الاتحاد العام للأدباء العرب الذى نظم هذا المؤتمر. وبعد سنوات قليلة صدر فى القاهرة للدكتور عبدالحى أديب كتاب عنوانه «الاقطاع الفكرى وآثاره» يزدرى فيه طه حسين ويدعو إلى التخلص منه! ولم تكن هذه المعارك الثقافية والصحفية تفرض وحدها على طه حسين ولكنه كان بدوره يثيرها عندما يجد أن هناك ما يخرج عن الصواب خروجا يورطه فيه، مثلما حدث أثناء رئاسته لتحرير جريدة «الجمهورية» وقرأ على صفحاتها مقالا بقلم إبراهيم الوردانى يصف فيه أساطير اليونان بأنها أدب عفاريت وان التراث العربى القديم أدب تقعر، وأننا لسنا بحاجة لا إلى هذا أو ذاك.. عندئذ تصدى له طه حسين بكل ثقله قائلا ان هذه الدعوة لا تصدر إلا عن جهل تام بالأدبين الحافلين بالمعانى الإنسانية وجمال التعبير وان كاتب المقال دون أن يذكر اسمه لو أنه قرأ شيئا من هذين الأدبين الخالدين لما كتب ما كتب بلا علم. ولهذا فلن يخطيء من يذكر أن طه حسين عاش حياته كلها، أو معظم مراحلها فى معارك دائمة يثيرها أو تثار من حوله وهى معارك لا تهدأ حتى تعود أكثر حدة مما كانت من قبل. ويبدو أن طه حسين اراد أن يحسم هذه الخلافات المتجددة فكتب مقالا من أهم مقالاته عنوانه «حق الخطأ» يفصح فيه عن موقفه من هذا الشر العظيم، نشر فى شهر يونيو 1955 فى حزأين يدافع فيه عن حرية الرأى وأن الخطأ، بحكم هذه الحرية، حق مكفول كحق الصواب سواء بسواء لا يستوجب العقاب أو التأديب الغليظ أو غير الغليظ وانما يستوجب فقط الرد الرقيق والبيان بالحجة والتصحيح برفق. وطه حسين بهذا يبنى المعرفة على قوى النفس الإنسانية، المتحررة من كل قيد. ولطول مقال طه حسين عن العلم والدين الذى يعرض فيه للتناقض بينهما، نقتطف منه هذه المقاطع التى تدل على عمق رؤيته ودقة فهمه لمتطلبات كل منهما، فى ضوء السياق السياسى والاجتماعى والخلفيات المعاصرة. وهذه نصوصها: بين العلم والدين طه حسين الناس معنيون فى هذه الأيام عندنا بالخصومة بين العلم والدين. وقد بدأت عنايتهم بهذه الخصومة تشتد منذ السنة الماضية، حين ظهر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فنهض له رجال الدين ينكرونه ويكفرون صاحبه، ويستعدون عليه السلطان السياسي. وزادت هذه العناية شدة حين ظهر فى هذه السنة كتاب «فى الشعر الجاهلي» فنهض له رجال الدين أيضا ينكرونه، ويكفرون صاحبه، ويستعدون عليه السلطان السياسي. والحق أن هذه الخصومة بين العلم والدين كما قلت فى غير هذا الموضع قديمة يرجع عهدها إلى أول الحياة العقلية الفلسفية. والحق أيضا أن هذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قوية متصلة ما قام العلم وما قام الدين لأن الخلاف بينهما كما سترى أساسى جوهرى لا سبيل إلى ازالته ولا إلى تخفيفه إلا إذا استطاع كل واحد منها أن ينسى صاحبه نسيانا تاما، ويعرض عنه اعراضا مطلقا. الخصومة فى حقيقة الأمر ليست بين العلم والدين، ولا بين الوثنية واليهودية والنصرانية والإسلام، ولا هى بين دين ودين، وانما هى أعم من ذلك وأيسر، هى بين القديم والجديد، هى بين السكون والحركة، هى بين الجمود والتطور. وإلا فكيف تستطيع أن تفهم أن يلقى سقراط والمسيح ومحمد - عليهما السلام- اضطهادا من نوع واحد؟ وكيف تستطيع وأن تفهم أن يتشابه موقف الوثنية والمسيحية واليهودية على اختلاف الأمكنة والأزمنة وأجيال الناس وطبائع جنسياتهم؟ كيف تستطيع أن تفهم تشابه هذه المواقف جميعا، إذا لم تردها إلى أصل واحد، وهو الخصومة بين القديم والجديد، أو استغلال السياسة للخصومة بين القديم والجديد؟ وما الذى كان بعد أن تم النصر للإسلام فى ناحية من انحاء الأرض وانقسم العالم القديم بينه وبين النصرانية فاستأثر الإسلام بالشرق واستأثرت المسيحية بالغرب. ولك أن تقرأ القرآن والأناجيل وتمعن فى القراءة ولك أن تبحث وتمعن فى البحث فلن تجد نصا أو شبه نص ينكر التجديد ويدعو إلى مناهضته أو يأخذ العقول بالجمود أو يحظر عليها حرية الرأى قليلا أو كثيرا. ليس فى الإسلام ولافى المسيحية إذن ما يدعو إلى مناهضة حرية الرأى ولم يكن فى الوثنية اليونانية أو الرومانية ما يدعو إلى مناهضة حرية الرأى أيضا. ومع ذلك فقد أثم الوثنيون وأثم اليهود والنصارى والمسلمون واعتدوا جميعا على حرية الرأى اعتداء يختلف قوة وضعفا. .............. نحن نرى فى أول هذا العصر الحديث حركة تدعو إلى حرية الرأى وإلى التجديد فى كل شيء فى العلم والأدب والفلسفة والدين. نرى هذا كله ولكننا لا نرى الحرب بين القديم والجديد عنيفة تنتهى إلى سفك الدماء إلا فى المظهر الدينى الخالص، أو فى ما يكون من الخصومة بين المظهر الدينى والمظهر العلمى الفلسفي. ................. ان الخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية لا سبيل إلى اتقائها ولا إلى التخلص منها، هى أساسية جوهرية لأن العلم والدين لا يتصلان بملكة واحدة من ملكات الإنسان، وانما يتصل أحدهما بالشعور ويتصل الآخر بالعقل، يتأثر أحدهما بالخيال ويستأثر بالعواطف، ولا يتأثر الآخر بالخيال إلا بمقدار ولا يعنى بالعاطفة إلا من حيث هى موضوع لدرسه وتحليله، والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية لأن الدين أسن من العلم، ولأنه كان فى العصور القديمة كل شيء: كان دينا وكان علما ولأن العلم جاء بعد ذلك فغير هذا القسم العلمى من الدين، وأبى الدين أن يذعن لهذا التغيير، وأبى العلم أن ينزل عما ظفر به من الثمرات، فلن يتفقا ألا إذا جحد أحدهما شخصيته كما قلت فى غير هذا المكان. والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية لأن الدين يرى لنفسه الثبات والاستقرار، ولأن العلم يرى لنفسه التغير والتجدد فلا يمكن أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما عن شخصيته. فالخصومة بينهما أمر لابد منه. ولكن المسألة فى حقيقة الأمر ليست فى أن الخصومة واقعة أو غير واقعة وانما هى فى أن الخصومة ضارة أو نافعة أو بعبارة أدق: المسألة هى أن نعرف هل كتب على الإنسانية ان تشقى بالعلم والدين، أم هل كتب على الإنسانية أن تسعد بالعلم والدين؟ أما نحن فنعتقد ان الإنسانية تستطيع أن تسعد بالعلم والدين جميعا. وأنها ملزمة إذا لم تستطع أن تسعد بهما أن تجتهد فى الا تشقى بهما. وسبيل ذلك عندنا واضحة وهى أن ينزع السلاح كما يقولون من يد العلم والدين، أو قل سبيل ذلك ان ترغم السياسة على أن تقف موقف الحيدة من هذين الخصمين. فالعلم فى نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذي، والدين فى نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذي، ولكن السياسة تريد وتستطيع الأذى غالبا. طه حسين