ذكر المؤرخ المقريزى أن أول مستشفى تأسس فى الإسلام فى عهد الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك، الذى حكم من سنة 86ه إلى سنة 96ه، (سنة 705م إلى سنة 715م)، وكان هذا المستشفى متخصصًا فى الجذام، وأنشئت بعد ذلك المستشفيات العديدة فى العالم الإسلامي، وبلغ بعضها شأوًا عظيمًا، حتى كانت هذه المستشفيات تُعدّ قلاعًا للعلم والطب، وتُعتبر من أوائل الكليات والجامعات فى العالم. وكانت تلك المستشفيات فى تاريخنا منها الثابت ومنها المحمول المتنقّل؛ فالثابت هو الذى يُنشَأ فى المدن، وكنت قلَّما تجد مدينة إسلامية -ولو صغيرة- بغير مستشفي، أما المستشفى المتنقل فهو المجهز بجميع ما يلزم للمرضى والمداواة من أدوات وأطعمة وأشربة وملابس وأطباء وصيادلة، وكل ما يعين على ترفيه الحال على المرضى والعجزة والمزمنين والمسجونين، بحيث يحمل ذلك على ظهور الإبل ويجوب القرى البعيدة والصحارى والجبال، وكانت المستشفيات المتنقّلة تُحمَل على مجموعة كبيرة من الجِمال (وصلت فى بعض الأحيان إلى أربعين جملاً!! وذلك فى عهد السلطان محمود السلجوقي، الذى حكم من سنة 511ه إلى سنة 525ه)، وكانت هذه القوافل مُزوَّدة بالآلات العلاجية والأدوية، ويرافقها عدد من الأطباء، وكان بمقدورها الوصول إلى كل رقعة. وقد وصلت المستشفيات الثابتة فى المدن الكبرى إلى درجة راقية جدًّا فى المستوي، وكان بقرطبة وحدها أكثر من خمسين مستشفى !! وهنا طرأت قضية مهمة، وهى أن إعمار المستشفيات على هذا النحو لو اقتصر على إنشاء المبانى وتقديم الخدمات الطبية لتحولنا إلى مستهلكين لابتكارات غيرنا من الأمم كالصينيين والهنود، ونتحول إلى عالة عليهم، فصار محتما على العقل المسلم المنير أن يتحول إلى ابتكار العلوم والمعارف الطبية، واكتشاف العلاجات والأدوية للأمراض المستعصية، حتى نكون أمة تملك مفاتيح البحث العلمي، وتعتمد على ذاتها فى الاكتشاف والإبداع، ثم تتأنق فى توصيل ثمرة ذلك إلى المرضى من خلال الخدمات التى نصفها هنا. ولذا لم تكن تلك المستشفيات مجرد دور علاج، بل كانت كلّيات طب حقيقية على أرقى مستوي؛ فكان الطبيب المتخصص يلقى درس الطب بجانب سرير المريض، فيمرُّ على الحالات فى الصباح، ومعه الأطباء الذين هم فى أولى مراحلهم الطبية، فيعلّمهم، ويدوّن ملاحظاته، ويصف العلاج، وهم يراقبون ويتعلمون، ويعرفون كيفية استدلاله على الأمراض، وجملة ما يصفه للمرضي، وما يكتب لهم، ويبحثون معه فى كثير من الأمراض ومداواتها، ثم ينتقل الأستاذ بعد ذلك إلى قاعة كبيرة ويجلس وبين يديه الطلاب فيقرأ عليهم الكتب الطبية، ويشرح ويوضّح، ويجيب عن أسئلتهم، ولا يزال معهم فى اشتغال ومباحثة ونظر فى الكتب الطبية مقدار عدة ساعات، ويعقد لهم امتحانًا فى نهاية كل برنامج تعليمى معين ينتهون من دراسته، ومن ثَمَّ يعطيهم إجازة فى الفرع الذى تخصصوا فيه. وكانت المستشفيات فى الإسلام تضم فى داخلها مكتبات ضخمة تحوى عددًا هائلاً من الكتب المتخصصة فى الطب والصيدلة وعلم التشريح ووظائف الأعضاء، إلى جانب علوم الفقه المتعلقة بالطب، وغير ذلك من علوم تهمّ الطبيب، ومما يذكر على سبيل المثال -لنعرف ضخامة هذه المكتبات- أن مكتبة مستشفى ابن طولون بالقاهرة كانت تضم بين جنباتها أكثر من مائة ألف كتاب، كما ذكره ابن تغرى بردى فى كتاب: (النجوم الزاهرة). وكانت تُزرَع -إلى جوار المستشفيات- المزارع الضخمة التى تنمو فيها الأعشاب الطبية والنباتات العلاجية؛ وذلك لإمداد المستشفى بما يحتاجه من الأدوية. وكانت المستشفيات تقسم تقسيما فنيا لتجنُّب العدوي؛ فكان المريض إذا دخل المستشفى يُسلِّم ملابسه التى دخل بها، ثم يُعطَى ملابس جديدة مجانية لمنع انتقال العدوى عن طريق ملابسه التى كان يرتديها حين مرض، ثم يدخل كل مريض فى عنبر مختص بمرضه، ولا يُسمح له بدخول العنابر الأخرى لمنع انتقال العدوى أيضًا، وينام كل مريض على سرير خاص به، وعليه ملاءات جديدة وأدوات خاصة!! وقد وصف المستشرق الألمانى ماكس مايرهوف حالة المستشفيات فى أوروبا فى العصر الذى كانت فيه المستشفيات فى حضارتنا بالصفة المذكورة: (إن المستشفيات العربية ونظم الصحة فى البلاد الإسلامية الغابرة لتلقى علينا الآن درسًا قاسيًا مُرًّا لا نقدره حق قدره إلا بعد القيام بمقارنة بسيطة مع مستشفيات أوروبا فى ذلك الزمن نفسه، مرّ أكثر من ثلاثة قرون على أوروبا، اعتبارًا من زمننا هذا، قبل أن تعرف للمستشفيات العامة معني، ولا نبالغ إذا قلنا بأنه حتى القرن الثامن عشر (1710م) والمرضى يعالجون فى بيوتهم أو فى دور خاصة كانت المستشفيات الأوروبية قبلها عبارة عن دور عطف وإحسان، ومأوى لمن لا مأوى لديه، مرضى كانوا أم عاجزين). ولم تكن صناعة هذه الصورة المشرفة من الحضارة والإنسانية نتاجا مسلما بحتا، ولا مقصورا على المسلمين فقط، بل شاركهم فى صناعته أطباء بارعون مسيحيون، منهم جورجيس بن بختشيوع الجنديسابوري، الذى استقدمه الخليفة المنصور فصار طبيبه الخاص إلى أن توفي، وابنه بختشيوع الذى استقدمه الخليفة المهدي، وكان جليلا فى صناعة الطب، فظل فى خدمة الخلفاء المهدى والهادى والرشيد إلى أن توفي، وابنه جبريل بن بختشيوع، وكان طبيبا حاذقا نبيلا، الذى كان طبيبا لجعفر بن يحيى البرمكي، حتى قدمه إلى الخليفة الصالح هارون الرشيد، فجعله رئيس الأطباء وظل كذلك عند من جاء بعده من الخلفاء. ومنهم الطبيب يوحنا بن ماسويه، كان طبيبا أيام الخليفة الأمين، والمأمون، وبقى إلى أيام أمير المؤمنين المتوكل، وكان ملوك بنى هاشم يكرمونه ولا يأكلون إلا بوجوده، وقال المؤرخون المسلمون لعلوم الطب فى تاريخ المسلمين عنه: (وله فى الطب أسرار خلدها منافع للناس)، وهؤلاء الأطباء يُذكرون جنبا إلى جنب مع عباقرة الطب من المسلمين كابن النفيس، وابن سينا، والإمام فخر الدين الرازي، وأبى القاسم الزهراوي، وابن الهيثم، وعلى بن رضوان المصري، وغيرهم كثير، مما يدل على أن هذه الحضارة العربية الإسلامية هى نسق إنسانى واسع، يعشق الحياة، ويصنع الحضارة، ويهيم بالعلم والبحث العلمي، ويتسع للناس مهما اختلفت العقائد، وقد تضافر على صناعته المسلم وغير المسلم، وهكذا عشنا معا، وهكذا نعيش معا، وسنظل نعيش معا. لمزيد من مقالات د. أسامة الأزهرى