السفارة العربية الوحيدة كانت لمصر .. وأول سفير كان الرئيس جمال عبد الناصر بداية : منذ كان طفلا فى العاشرة كانت أمنية حياته أن يترك المدرسة وأن يعمل ماسحا للأحذية، كان ينظر بشغف إلى «البشر الثلاثة» الذين كانوا يجلسون بكبرياء وهمة أمام الكراسى الدوارة، ويتحدثون فى غرام عن مهنتهم التى تفوق مهنة الطب والهندسة والتنجيد، ويتفكرون فى أهمية أن تظل الشوارع نظيفة حتى تبقى الأحذية سليمة وبراقة، لأن جواهر الناس تعرف من لمعان أحذيتهم، ولم تتغير نظرته حين صار فى الثلاثين وارتفع سطح الشارع وصار الباب محل التلميع فرجة ضيقة يتدلى منها العمال، كان يسمع أحاديث البشر الثلاثة تحت الشعر الأبيض والحواجب المهدلة بالشيب، وأصواتهم التى تضعضعت يتكلمون عن الهدوء الجميل الذى توفره العتبات العالية بعيدا عن صخب الشارع والباب الذى يدخلون منه زحفا على صدورهم، والظلمة .. عندما تألفها العين ترى مالا يمكن رؤيته فى ضوء النهار الساطع. ......................... ولأن المدن مثل البشر بعضها واضح وصريح تحركه قواعد الحياة ونور المدنية وبعضها يلفه الغموض والظلمة وعقد السياسة ودهاليزها الملتوية فى عالم أدمن الكذب وازدواجية الرؤية .. وحتى تألفها العين وتخرج للناس جواهرها كما الفت عيون «البشر الثلاثة» ظلمة محل الأحذية لابد من مكتشفين من النوع الذى وصفه العلامة والرحالة العربى المسعودى بأنهم (قسموا عمرهم على الأسفار وقطع الأقطار لاستخراج كل دقيق من معدنه وكل نفيس من مكمنه) .. هكذا كانت رسالة الكاتب الرحالة محمد المخزنجى للعالم و شغفه الطامح للأمن والتعايش والسكينة، حين ذهب إلى ميانمار منذ سنوات وسجل رؤاه فى كتابه الفريد «جنوبا وشرقا رحلات ورؤي» الصادر عن دار الشروق نستعيد مشاهده من بورما لكشف الظلمة رغم قتامة المشهد بفعل دخان المعارك وألسنة اللهب وصراخ الضحايا وارتباك الرؤية شرقا وغربا.. أمتعنا فيه بلغة الأديب وفضول الصحفى وحملنا على بساط الريح فى أعماق المدن والشوارع والحارات نكتشف معه مسرحا جديدا يجسد مأساة الحضارة الانسانية وحجم وتناقضات هذا الزمان الذى صار بوسع من يقدمون السلاح للقاتل أن يمشوا فى جنازة القتيل ويذرفونا الدمع أمام الكاميرات! المشهد الأول باقات من الزهور منذ اللحظة الأولى حين لمست قدما المخزنجى الأرض خارج المطار الدولى يحلق بنا فى أجواء بورما السحرية : أبراج من الذهب الخالص فى معابد الحفاة. وياقوت حقيقى بلون دم الحمام الشفيف.. راهبات بوذيات حليقات الرءوس. ومسلمون يتوضأون من حوض تسبح فيه أسماك ملونة. طعام شبه صينى بتوابل هندية حارة. وعصير جوز الهند الطازج لرى العطش. إنها (يانجون) التى مكث العالم قرنا ونصف القرن يسميها كما أسماها الاستعماريون البريطانيون (رانجون).وهى عاصمة (ميانمار) التى ظللنا وراء البريطانيين أيضا ندعوها (بورما). قلت لمرافقى وأنا أهم بركوب السيارة خارج مطار يانجون الدولى البسيط الفسيح: «لكن ما اسمك؟»، فقال: «آى كوكو»، وكان «آى كوكو» مع أشجار الشارع الاستوائية الكثيفة الوارفة خارج المطار، أول لمحة عن خصوصية هذا البلد. عمره بين الخامسة والعشرين والثلاثين، نحيف ومتوسط القامة وخفيف السمرة، يرتدى ذلك الزى الوطنى الذى يتمسك أهل البلاد به، وهو «لونجي» الذى يشبه السارجون الماليزى والكمبودى ويتكون من قطعة قماش واحدة تلف حول الوسط كإزار وتنسدل حتى القدمين، «آى كوكو» يعمل سائقا ومرشدا سياحيا لدى شركة خدمات تاكسى المطار، أطبقت علينا حلقة البنات الجميلات اللائى وقفن فى صفين على جانبى باب الخروج من المنطقة الجمركية.يرتدين الثياب الوطنية الذهبية والبرتقالية ومعهن باقات صغيرة لزهور طازجة وهن ممثلات لشركات السياحة الخاصة التى أخذت تتكاثر فى ميانمار بعد انفتاحها الأخير على العالم وانتباهها للسياحة كمصدر لجلب العملة الصعبة، المشهد الثانى السياسة .. ووجوه الصبايا .. أما حكاية مناوأة أمريكا للنظام العسكرى الحاكم فى ميانمار دفاعا عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وضغطا لمكافحة المخدرات التى تلوح أمريكا بمسئولية بعض أركان النظام العسكرى عنها فهى حكاية ملتبسة وغريبة وتفصح دهاليزها وتاريخها المكبوت عن أن السياسة الأمريكية صارت كالمخدرات تجارة ومصالح. ومادامت كذلك فقل على الأخلاق السلام، وقل عن الحقيقة ما شئت، فهى ذات وجوه ووجوه. أما وجوه الصبايا اللائى أحطن بنا عند باب الخروج، فقد كانت ولا أحلي، مدورة، دقيقة الملامح ورقيقة، لكن لغتهن الإنجليزية لم تكن كذلك وهن يتكاثرن علينا ويتصايحن ويلوحن بقوائم الفنادق وبرامج الرحلات التابعة لشركاتهن، وعندما استدرت ألوِّح لهن مودعا صائحا بالكلمة الميانمارية التى تعنى إلى اللقاء: «ثوا ماي»، رددن بخفوت «ثوا». .. وفى العاصمة شبه الجزيرة هذه بحيرتان كبيرتان أولاهما بحيرة «إنيا» فى الشمال، وبحيرة (كانداويجي) أو البحيرة الملكية فى الجنوب الأوسط. لكن خمسة وعشرين قرنا كانت كافية لإنشاء دلتا واسعة فى جنوب البلاد من ترسبات مياه نهرى (ايير وادي) وهيلانج وهما فى طريقهما إلى البحر، وضمن هذه الدلتا ولدت العاصمة وصارت ميناء تجاريا نهريا مهما، يقود إلى البحر، ثم المحيط. ويقودنى اسمها عبر ثرثرة الطريق مع آى كوكو إلى لغز الاسماء فى هذا البلد. فكلمة «يانجون» هى الاسم الذى أطلقه الملك «ألاونجبايا» على قرية استولى عليها عام 1755 من شعب «المون» وكان الاسم يعنى «نهاية الكفاح» أو «استراحة المحارب» وعندما جاء الإنجليز واحتلوا البلاد والعباد حولوا الاسم مع أسماء أخرى إلى «رانجون» ليكون يسيرا على ألسنتهم. لكن الاسم عاد إلى أصله منذ سنوات، ففى عام 1989 صدر مرسوم وطنى بتغيير الاسم الإنجليزى للدولة (اتحاد بورما) إلى «اتحاد دولة ميانمار» وهو الاسم الذى عرفت به البلاد منذ أيام الرحالة (ماركو بولو) فى القرن 13. وميانمار تدل على البلد بأسره أما بورما فهى نطق إنجليزى لكلمة «بامار» الدالة على العنصر البشرى الغالب واللغة التى يستخدمها.. المشهد الثالث الأسماء .. درس فى المواطنة الاسماء لفتة وطنية تثير الدهشة فى هذا البلد. لكن الأكثر إدهاشا هو أسماء الناس من الغالبية البوذية. ففى ميانمار لايوجد اسم عائلة، والاسماء لا توضح أبدا من يكون ابن من أو شقيق من، فبعد مولد الميانمارى بأسبوع يقام احتفال يسمى «حفل التسمية» حيث يعطى المولود اسما يتكون من مقطع أو اثنين أو ثلاثة، وعادة ما يختار الاسم تبعا لرؤية المنجم أو الوسيط الروحانى أو الراهب البوذي. . لكن الاسم مع ذلك يوضح جنس حامله ومرتبته الاجتماعية، فالرجل الذى اسمه «كاو رنج» يمكن أن يصير «أو كاورنج»، أو «كو كاورنج»، أو «مونج كاورنج» حيث «أو» تشير إلى الرفعة فى المكان الاجتماعى أو مكانة كبيرة السن ولعلنا نتذكر اسم «أوثانت» سكرتير الأممالمتحدة السابق، وأونو أول رئيس وزارة فى فترة التحرر الوطنى وأحد أصدقاء جمال عبدالناصر الخمسة فى قيادة دول عدم الانحياز. أما فى داخل الأسرة فإن الزوجات ينادين أزواجهن «إينج جالو»، أو «إين ثار» وتعنى رجل البيت الطيب، وكانت المفاجأة اسم «كوكو» وتعنى «الأخ الأكبر»، وهكذا اكتشفت أن «كوكو» الهاديء والصبور كان ماكرا أيضا، وربما كان مرحا أو معتدا بنفسه، فقد جعلنى أناديه طوال الوقت «يا أخى الأكبر». المشهد الرابع لا تنس إطعام الطيور لمست «ماى جى جى مي» «الجرسونة» الجميلة دعوة لم أنتبه إليها موضوع مثلها على كل موائد الإفطار فى مطعم السفينة بالطابق العلوي. وقالت تذكرنى برقة رصينة «لا تنس إطعام الطيور.. إنه إحساس رائع». هم يفعلونه بيقين ديني، فمن ناحية يتعلم البوذى ألا يؤذى أيا من الكائنات، ومن ناحية ثانية هو إذ يطعم كائنا جائعا يكتسب حسنة تقربه من الإشراق أو الانعتاق من آلام تكرار دورة الميلاد والموت، ومن ناحية ثالثة لأنه يؤمن بدورة التناسخ والميلاد المتكرر فى كائن جديد، فربما كانت تحمل روح أب أو أم أو أخ أو عزيز من الراحلين، .. وبين المراكب تنساب فى نعومة وسرعة زوارق خفيفة مستطيلة يجدف ملاحوها وقوفا وهى منحوتة من جذع شجرة «التيك» التى يُعرف خشبها لدينا باسم خشب الساج، والذى تنتج منه ميانمار 80% من الإنتاج العالمي. وهو خشب يُسيل لعاب بارونات تجارة الأخشاب والموبيليات «فوق الفاخرة» فى العالم، ويثير شجونا عربية نتبادلها على عشاء فى ليل يانجون الناعم، دعانا إليه المستشار الدبلوماسى المصرى فوزى العشماوي. فالعرب الذين اكتشفوا الآن شعبا مسلما فى ميانمار لم يكن لديهم تمثيل دبلوماسى فى بورما غير السفارة المصرية، ولعل من أفضل توصيات الجامعة العربية تلك التى نادت بالإبقاء على السفارة المصرية كتمثيل دبلوماسى عربى فى ميانمار. المشهد الخامس السفير العربى الوحيد بالقرب من فندقنا العائم وفى حى السفارات غربى البحيرات الملكية ذهبنا للقاء السفير العربى الوحيد فى يانجون عبد الرحيم شلبي، وهو لم يكن الأول، فسفير العرب الأول فى ميانمار كان جمال عبدالناصر الذى مر بيانجون وهو فى الطريق إلى باندونج وقابل آنذاك «أونو» أول رئيس وزراء وطنى بعد الاستقلال مع شوين لاى رئيس وزراء الصين وطاروا ثلاثتهم إلى الهند للقاء الزعيم الهندى نهرو. وقد كانت ميانمار إحدى الدول الخمس المؤسسة لمنظمة عدم الانحياز، أو الحياد الإيجابي. وبرغم ابتعاد الزمان فلايزال المخضرمون فى هذا البلد يذكرون عبدالناصر بمودة. ولقد أثار تمثاله النصفى الصغير ببهو السفارة العربية الوحيدة فى ميانمار حنينا وامتنانا كبيرين فى داخلى إذ رأيته هناك لايزال. حنين لرجل جاد، وامتنان لمجتهد كبير، وصلت خطواته إلى هذه الأصقاع البعيدة التى كنت أتصور أن أحدا غيرى وغير ابن بطوطة لم يصل إليها. ويسجل المخزنجى الحديث الذى تدفق مع المستشار فوزى العشماوى :فقد كان عارفا بفرط أهمية هذا البلد الذى يكاد العرب يسقطونه من ذاكرتهم برغم أنه كنز بكر يتسابق عليه العالم حتى الذين يدعون معارضة نظامه العسكري. تركز حديثنا حول الاقتصاد، واستمر مفعما بالنداء تلو النداء للعرب جميعا ألا يتركوا فرص الاستثمار فى هذا البلد تفوتهم، للصالح العربي، وللصالح الإنساني، فليس بالغرب وحده يحيا الإنسان. ولا بإدانات العرب ودعواتهم فقط ولكن بدعم هذا البلد وتنميته وخاصة الروهينجا وميانمار قادمة، برغم كل معوقات التنمية بها، لأنها سلة ثروات طبيعية نادرة فى شرق آسيا. وليس بمستغرب إن كانت ميانمار المصدر الأول لأفضل أنواع الأرز فى العالم، وهى لاتزال تنتجه مع الفواكه وقصب السكر، والسمسم، والتبغ، والجوت، والمطاط، كما تنتج الفحم الحجرى والغاز الطبيعى والنفط والزنك والرصاص والتنجستين والفضة. أما الأحجار الكريمة فحدث ولا حرج. وبها أيضا ما أسميه «الأخشاب الكريمة». لنفكر نحن العرب ولو فى خشب ميانمار وحده، والساج أحد أنواعه، ودعنا من البخور الذى لا مثيل له فيكفينا منه قليل الشظايا. لماذا على سبيل المثال لا يُستثمر المال العربى فى صناعة أثاث مشتركة بمهارات حرفية عربية وخشب ميانمارى وأبواب رزق تُفتح لأبناء المسلمين هناك، وفائدة تعم الجميع، وحبل مودة يمتد بين العرب وبين هذا النمر الآسيوى القادم ضمن نمور منظمة شرق آسيا الآخذة فى السطوع . المشهد السادس المودة بين المعابد و المساجد ورغم كل ما يثار الآن عن الاضطهاد والتطهير العرقى وحقول الألغام التى تحاصر مسلمى الروهينجا.. يسجل محمد المخزنجى حالة العناق التاريخى بين رقائق الحضارة فى هذا البلد .. المعابد البوذية والمساجد الإسلامية فيقول: إذا كان معبد شويداجون هو روح عاصمتها فإن معبد سولى هو قلبها، والطريق إلى معبد سولى يكشف عن أعماق وأحشاء وأوردة وشرايين يانجون. وعبر التقاطعات فى قلب يانجون تتقاطر الوجوه والملابس كاشفة عن التنوع العرقى الثرى لشعوب ميانمار. ومن كل الزوايا تسمق صاعدة ومتعانقة أحيانا أبراج المعابد البوذية، ومنارات مساجد المسلمين الدقيقة، وأبراج الكاتدرائيات الإنجليكانية. ومن هذه الزوايا عينها نرى تدفقات البشر فى حياتهم اليومية ذاهبين إلى دور السينما المثقلة بعواطف الأفلام الهندية ومغامرات أفلام «الأكشن» القادمة من الغرب،ومن مدهشات معبد سولى أن طبقة الذهب التى كانت تغطى أبراجه قد تآكلت بفعل الأمطار الموسمية العنيفة على مدار السنين، لهذا يجرى جمع تبرعات من كل أرجاء البلاد لإعادة كساء المعبد بالذهب، ولا أحد يتخلف عن التبرع ابتداء من قادة الحكم حتى رجل الشارع البسيط والفقير حتى الميت، فعندما يموت الميانمارى البوذى توضع فى فمه قطعة نقود معدنية لإعطائها «للمراكبي» الذى سيعبر به النهر فى زورقه المقدس إلى الحياة التالية. وأقارب المتوفى ومعارفه يدعون لاحتفال فى منزله حيث يعتقدون أن روح المتوفى تبقى معهم فى هذا البيت أسبوعاً قبل أن تنتقل إلى مرحلة أخرى. ومع حديث انتقال الأرواح وغير بعيد من معبد سولى يفاجئنا بناء فيروزى من عدة طوابق تعلوه مئذنة دقيقة مزخرفة الشرفات، بذوق شبه القارة الهندية، إنه «مسجد جامع» أو المسجد الكبير فى شارع ومنطقة «بوسن بات». وبينما رحنا ندور فى المكان بحثا عن مدخل المسجد اكتشفنا أننا فى منطقة كثافة مسلمة، شوارع مزدحمة، ووجوه سمراء أليفة. وفى طريق الصعود إلى بيت الصلاة فى الطابق الثانى من المسجد مررنا فى زقاق طويل تفتح عليه أبواب الطابق تحت الأرضى من المبني، وكان عمال نشطون يخرجون أوعية نحاسية «حلل» كبيرة جداً يجلونها بحمية، وعرفنا أنها أوعية إعداد طعام الإفطار الجماعى الذى يقدم فى المكان طوال شهر رمضان الذى وقفنا على أبوابه الكريمة فى هذا البلد البعيد. إنه الإسلام السمح الذى يتيح لك وأنت فى أقاصى الدنيا أن تجد إخوة لك بمجرد أن تلقى بالتحية وكأنها كلمة السر العظيم والحميم: «السلام عليكم»، فيتبدد الشعور بالغربة على الفور برغم اختلاف الألوان والملامح وبعض المدهشات، كتلك الأسماك الاستوائية الملونة التى كانت تسبح وادعة فى شفافية حوض الوضوء الكبير المبطن بالقيشانى والمحاط بمقاعد مدورة من الرخام يقتعدها المتوضئون. المشهد السابع على جناح «السلام عليكم» وعلى جناحى «السلام عليكم» تنقلنا فى منطقة المسلمين حتى التقينا بعمدة المكان، رجل نحيف فارع باكستانى الملامح برغم أنه ميانمارى تماماً فى نحو السبعين عمراً، وفى غاية من النشاط، اسمه سليمان أحمد جنوال. دعانا إلى بيته فى شارع «بوسن بات» وصعدنا درجاً نحيلاً قائماً حتى وصلنا لاهثين إلى الطابق الثانى المرتفع بينما الرجل يسبقنا نشيطاً، ودخل باب الدار المفتوح زاعقاً بصوت جهورى «السلام عليكم» فسمعنا صوت تراكض النساء يتوارين عن الأنظار. إنه طابع محافظ للمسلمين الراجعة جذورهم لشبه القارة الهندية. ويحدثنا الرجل بإنجليزية واضحة وصوت مليء، وبالعربية أحياناً. فنعرف أن الإسلام سبق البوذية فى دخول ميانمار، إذ وصل فى أفئدة وسلوك التجار والبحارة المسلمين الذين قصدوا المكان فى القرن السابع، أى قبل مجيء البوذية بسبعة قرون كاملة. كانوا يجيئون لشراء خشب التيك أو الساج الذى يصنعون منه مراكبهم وأبواب مدنهم ودورهم الكبيرة. عاد منهم من عاد، وبقى من بقي، وظل إشعاع الإسلام الذى تزود برافد آخر بعد سقوط مملكة يونان الصينية ومجيء المسلمين البانديز من الشمال. المسلمون فى ميانمار حوالى 15% من عدد السكان فهم نحو ستة ملايين مسلم. وفى العاصمة وحدها 120 مسجداً وثمة 12 ألف مدرسة ملحقة بالمساجد فى كل أنحاء البلاد. وهم باستقراء آراء من التقيتهم وهم شتى لايريدون إعانات، بل يريدون المعرفة ومزيداً من فرص العمل عبر استثمار إسلامى وعربى فى ميانمار. (ملحوظة: يضع المخزنجى يده على الجرح خلال حديثه مع «العمدة» وأن المسلمين فى ميانمار لا يريدون دعوات بالنصرة ولا إعانات ولا بيانات للشجب والإدانة واتهامات من ذلك النوع الذى يسكب البنزين على الأوضاع ويقطع شرايين المصالح ويوفر بيئة صالحة لإيواء الدواعش الفارين من ميادين «الجهاد» فى ليبيا وسوريا والعراق، بل يبحث الروهينجا والماينماريون عن فرص للعمل واستثمارات، ومشروعات صحية ومعرفية، وهى ليست خافية ولا صعبة على الأزهر الشريف الذى بدأ حملة دولية لتخفيف حدة التوتر وكشف حقيقة الاضطهاد الذي يتعرض له الأقلية المسلمة فليس بمعونات الغرب وحده يحيا الانسان فى ميانمار). المشهد الثامن اخلع نعليك عند بوابة معبد «شويداجون» الباذخة، بين الأسدين الأسطوريين المذهبين، قال لى الراهب العجوز فى مئزره الأحمر الزعفرانى وابتسامة خجول تتسع على وجهه النحيف المتغضن: «عفواً، لتخلع نعليك».وحملت حذائى وجوربى فى «كيس» من النايلون ومضيت أصعد مع الصاعدين نحو الضريح الذهبى الرابض على ارتفاع مائة متر متخذاً شكل جرس أسطورى ينكفيء على أسطورة ويكتنز ذهبا قيل عنه يوماً إنه أكثر من احتياطى الذهب فى بنك إنجلترا، يوم كانت بريطانيا إمبراطورية استعمارية لاتغيب عنها الشمس، ومنها شمس هذا المكان. إنه معبد أو مزار «شويداجون» والذى يعتبر الصعود إلى قمته نوعاً من رحلة الحج عند البوذيين فى ميانمار. وهو مدينة دينية ذات أبراج ذهبية عددها أكثر من مائة يتربع وسطها وعلى قمتها الضريح المكسو ب 8688 رقيقة من الذهب الخالص يقارب ثمن الواحدة منها 500 دولار، وترصع قمته ب 5448 ماسة، و2317 ياقوتة، وثمة زمردة ضخمة فى الوسط وضعت بحيث تلتقط أول شعاع للشمس المشرقة وآخر شعاع للشمس الغاربة. والشكل الجرسى نفسه يرتفع عشرة أمتار قائماً على سبعة أعمدة من الذهب الخالص مزينة ب 1065 جرسا ذهبيا و240 جرسا فضيا. رموز، رموز، رموز، وأوضح تلك الرموز هى التى تكتنزها عمارة شويداجون، فالمدخل المضيء يمثل الميلاد، والرواق الصاعد والمتصاعد عتمة ومشقة إنما يمثل تقدم العمر والمرض والوهن، وباحة النور عند القمة هى الموت الذى يعلن عن ميلاد ثان .. وهى نفس الحياة الثانية لقصة «البشر الثلاثة» التى كتبها المخزنجى فى بداية حياته الأدبية حين اعتبر أن رسالة الكاتب هى إجلاء الظلمة وتحويلها إلى نور.. فهل تقدم هذه المشاهد الثمانية حزمة ضوء على تاريخ هذا البلد العريق الذى تجرفه لعبة المطامع الدولية نحو هاوية أم أن البشر أمثال المخزنجى سيظلون يشقون بما يحبون؟