اعتدنا أن نتناول الشيخ رفاعة الطهطاوي، ونخصص له بحوثا ودراسات واسعة، ونسلط الأضواء على آثاره وأطروحاته، حتى تضاءلت بجواره شخصية الشيخ حسن العطار، وصرنا إذا ذكرنا العطار فإننا نقدمه على أنه أستاذ رفاعة الطهطاوي، فكأنه لا يمكن تعريفه إلا إذا أضيف إلى رفاعة، مع أن الأمر معكوس، لأن العطار هو رأس المدرسة، وهو صانع الرؤية، وهو الذى رسم الخريطة التى سار فيها رفاعة، فصار رفاعة جزءا من منظومة ومنظور كلي، لا يمكن إدراك آفاقه من دراسة رفاعة على حدة، معزولا عن السياق الأكبر، والرؤية التى هو أحد مكوناتها. كان الإمام الكبير الشيخ حسن العطار، شيخ الأزهر، عقلية فارقة، تدرك مفاتيح صناعة الحضارة. وقد عايش دخول الحملة الفرنسية لمصر، فما أصابته بصدمة ذهنية ونفسية، كما حدث مع الجبرتى المؤرخ، لأنه يدرس العلوم العقلية، ويفهمها فهمًا تامًّا، فلما أن رأى تجارب الفرنسيين أدرك فورًا أنها خطوة فى سلم التطور، تالية للحدِّ الذى انتهى هو إلى معرفته، عرف فورًا أن الفارق بين علومنا وعلوم الفرنسيين فى ذلك الوقت ليس بالبعد الذى يتصوره الجبرتي، بل هى خطوةٌ يمكن استدراكها والنهوض لتجاوزها. وانظر مثلا كلامه فى أواخر (حاشيته على شرح الجلال المحلي، على متن جمع الجوامع للإمام التاج السبكي)، حيث قال هناك ما نصه: (ومسألة إثبات الميل فى الأجسام من مسائل العلم الطبيعي، وبتحقيقهما ينكشف للفطن أسرار غريبة، وعليهما ينبنى كثير من مسائل علم جر الأثقال، وعلم الحيل، واستحداث الآلات العجيبة) ووقع أن فى زماننا جلبت كتبٌ من بلاد الإفرنج، وترجمت باللغة التركية والعربية، وفيها أعمالٌ كثيرةٌ، وأفعالٌ دقيقةٌ، اطلعنا على بعضها، وقد استخرجت تلك الأعمال بواسطة الأصول الهندسية والعلوم الطبيعية من القوة إلى الفعل، وتكلموا فى الصناعات الحربية، والآلات النارية، ومهدوا فيها قواعدَ وأصولا، حتى صار ذلك علمًا مستقلًّا، مدونًا فى الكتب، وفرعوه إلى فروعٍ كثيرة. ومن سمت به همته إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات، وعجائب المصنفات، انكشف له حقائق كثيرة من العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة فى رياض الفهوم فكن رجلا رجله فى الثرى * وهامة همته فى الثريا) فاجتمعت للعطار منظومة صناعة المعرفة، وهى إدراك الواقع بعمق، ومعرفة الشرع الشريف بعمق، والربط بينهما بنجاح وصفاء فهم، حتى قال العلامة الكبير أحمد تيمور باشا فى كتابه: (أعلام الفكر الإسلامى فى الوقت الحديث): (والخلاصة أن الشيخ حسن العطار كان له موقفٌ متكاملٌ من مشكلات عصره الثقافية، والتعليمية، والأدبية، والسياسية، وقد حاول أن يشخص هذا الواقع، ويحدد جوانب الضعف فيه، كما نادى بضرورة التغيير، ورسم خرائط هذا التغيير، ثم أسهم بدوره فى هذا التغيير). وكان من نتيجة ذلك كله أن انقدحت لدى حسن العطار رؤية محكمة، من ضمن أجنحتها أن يرسل عدداً من نوابغ طلابه إلى آفاق الدنيا، للنظر إلى عدد من المفاتيح المعرفية التى لا بد منها، فأرسل رفاعة الطهطاوى إلى فرنسا، وأرسل محمد عياد الطنطاوى إلى روسيا. فعاش كلاهما تجربته بعمق، فأتقن رفاعة الطهطاوى اللغة الفرنسية؛ لأنها مفتاحه فى هذه المهمة، وأتقن عياد الطنطاوى اللغة الروسية، وغاص رفاعة الطهطاوى فى أعماق المجتمع الفرنسى ورصد كل شىء فيه، كما غاص عياد الطنطاوى فى المجتمع الروسى ورصد كل شىء فيه، وجمع رفاعة الطهطاوى خلاصة مشاهداته وملاحظاته فى رحلته (تخليص الإبريز، فى تلخيص باريز)، كما جمع عياد الطنطاوى خلاصة مشاهداته وملاحظاته وتحليلاته فى رحلته: (تحفة الأذكيا، فى أخبار بلاد روسيا)، إلى غير ذلك من أوجه التشابه بين الشخصيتين المصريتين العظيمتين. لكن كان من أقدار رفاعة أن يرجع إلى مصر وأن يؤثر فيها، وكان من أقدار عياد الطنطاوى أن يبقى فى سانت بطرسبورج فى روسيا بقية عمره، حتى توفى ودفن هناك، فصار تأثيره عميقاً هناك فى روسيا، حيث عكف هناك على التعليم والإفادة نحو أربعين سنة، واتخذه القيصر مستشاراً، وقلده أرفع الأوسمة الروسية، وشهد المستشرقون الروس له بأثره العلمى الجليل، وألف الأستاذ الكبير كراتشكوفيسكى كتاباً مهماً عن حياته، وترجم هذا الكتاب إلى العربية، وطبع عندنا هنا فى مصر فى وزارة الثقافة، وفى فبراير الماضى دعت المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم لاحتفالية كبيرة تكريماً لذكرى الشيخ المعلم الجليل محمد عياد الطنطاوى فى قريته نجريج، مركز بسيون بالغربية. والخلاصة أننا أمام ثلاث شخصيات مصرية عبقرية، هم: الشيخ الجليل حسن العطار شيخ الأزهر وأستاذ جيله، وصاحب الرؤية الثاقبة والمنظومة المعرفية الواقعية الوطنية الجليلة، مع ثمرتين من ثمرات فكره وعقله، وهما رفاعة الطهطاوى وعياد الطنطاوي، وقد كان من خطط وخطوات هذه المدرسة المصرية الجليلة إقامة جسور بين الحضارات، تطل من خلالها مصر على الحضارات الأخرى، وتوصل مصر من خلالها لمحة من عبقريتها وعبقرية عقول أبنائها، ومقدرتهم على اختراق الحواجز، وصناعة حوار فعال بين الحضارات، بحيث نستفيد ونفيد، على خلفية من ثقة الإنسان المصرى فى ذاته وتاريخه ووطنه، واعتداده بهويته، وانفتاح أفقه على الدنيا كلها، بتجاربها وأطوارها المعرفية، والذى يهمنى هنا هو أن يعرف المصرى المعاصر أن وطنه العظيم لا يزال فى كل طور من أطوار التاريخ فاعلاً وحاضراً وله رؤية وجهود عميقة، وله عقول عبقرية تدير الأزمة، وتدرك وتحلل وتضع الرؤى، وتخوض التجربة، وتنحت فى الصخر، وتحفر فى وجدان الأمم أثراً رفيعاً. لمزيد من مقالات د. أسامة الأزهرى