وجدت الحكومة الإسرائيلية فى 5 يونيو الماضى نفسها أمام معضلة كبرى، فهى مطالبة أمام الرأى العام الإسرائيلى والغربى بتقديم تفسير مقنع لعدم إغلاقها قناة تعمل بمنزلة بوق للإرهاب والإرهابيين انطلاقا من قطر، خاصة بعد أن وصف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب نفسه الدوحة بأنها ذات تاريخ طويل فى تمويل الإرهاب، مطالبا بأن تتوقف هذه التوجهات. حكومة نيتانياهو وجدت أن عليها التمسك بحليف مساند وأداة اختراق للصف العربى حتى بعد افتضاح أمره، فكان الحل التسويف فى الإغلاق، فتل أبيب استغلت فتح الجزيرة المجال للإسرائيليين لدخول المنازل العربية، كما أن القناة الداعمة للإرهاب فى الدول العربية لم تتورع عن استقبال المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلى بشكل دورى وكذلك عتاة المتطرفين وبنيامين نيتانياهو نفسه منذ أن كان زعيما للمعارضة ضد اليسار المعتدل نسبيا فى إسرائيل. إسرائيل وعلى لسان أيوب قرا وزير الاتصالات الإسرائيلى (الدرزى المثير للجدل) صرحت يوم 6 أغسطس الحالى بأن هناك «توجها لإغلاق مكتب الجزيرة»، وتبين أن سقف التصعيد هو إغلاق مكتب القدس، وضم النشاط الخاص به إلى مكتب رام الله.. ورغم أن تل أبيب منعت الشهيد ياسر عرفات من مغادرة رام الله، وحاصرته حتى تم دس السم له واحتضر.. ورغم أن لإسرائيل تاريخا حافلا وعامرا فى قتل الأطفال (الدرة، الدوابشة، أطفال شاطئ غزة)، فإن حتى هذا القرار لم يتخط حدود التصريح ولم يتم تفعيله على أرض الواقع. فى المقابل تم إفساح المجال لوليد العمرى مدير المكتب وكبار مساعديه للترويج لمظلومية من قرار لم يتم تنفيذه. ففى نفس اليوم الذى أدلى فيه أيوب قرا بتصريحات ضد الجزيرة مطالبا «مكتب الصحافة الحكومية» الإسرائيلى بسحب تصريح مكتب الجزيرة وسحب بطاقات الصحافة الخاصة بالمراسلين العاملين فى الجزيرة، ومنع بثها على باقات الكوابل المنتشرة بين الإسرائيليين، نشر بنيامين نيتانياهو تغريدة على حسابه الشخصى على موقع تويتر يدعم فيه تلك الخطوات الرامية لمنع التحريض. وكشفت صحيفة هاآرتس أن تلك المطالبات لن يتم الاستجابة لها، وأكد رئيس مكتب الصحافة أن الأمر يتطلب استطلاع رأى الأجهزة الأمنية. وحتى لو أدانت التقارير الأمنية الجزيرة، فإن الموقف يتطلب استجواباً وتحقيقاً مع المراسلين أولاً. ولم يتم رصد سوى تحركات «مسرحية» داخل مكتب الجزيرة فى النصف الأول من العام الحالي، منها: زيارة للمتطرف «باروخ مارزيل» أحد مؤسسى حركة «كاخ» الإرهابية المحظورة (وفقا للقانون الإسرائيلي)، مصحوبا «بميخال بن أري» (وهو عضو كنيست سابق وأحد مؤسسى حركة كاخ أيضا)، وقال لهما المدير التنفيذى للجزيرة «أنا هنا لكى أساعد»، ومع هذا وضع المتطرف اليهودى ملصقا فى مدخل المكتب يدعو لإغلاق القناة باعتبارها فرعاً لداعش. فى منتصف الأسبوع الحالى كشفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن أحد أبرز المراسلين، ويحمل الجنسية الإسرائيلية، يتم التحقيق معه بعد أن صرح منذ عام بأنه يؤيد المقاومة. وخلال مناقشته أكد أنه لا يقصد المقاومة المسلحة، فقرر المسئولون بمكتب الصحافة إرجاء القرار النهائي، ما يعنى المزيد من التسويف. والأخطر أن القرارات التى اتخذها وزير الاتصالات متأخرة شهرين عن قرارات دول المقاطعة العربية لقطر، لا تزال حبراً على ورق، ولم يمس أحد داخل مكتب الجزيرة الذى يعمل فى القدس وفى رام الله دون معوقات، بل على العكس شهد القائمون عليه موجة مساندة فى الإعلام الإسرائيلى المرئى والمسموع والمكتوب غير مسبوقة. كل ذلك جاء مع استمرار بث الجزيرة على باقتى يس وهوت الإسرائيليتين للمشتركين بنظام الكوابل، واستقبال القناة على أطباق الأقمار الصناعية وهى الطريقة التقليدية المنتشرة وسط الفلسطينيين وفلسطينيى 48 خاصة فى مناطق تجمع البدو والمناطق خارج المدن والبلدات الكثيفة السكان. وعلى سبيل المثال صرح مدير عام هوت بيرد: تلقينا طلب وزير الاتصالات ونحن نفحص حاليا الطلب فى ضوء مصلحة الشركة والعملاء، وخريطة القنوات وأمور أخرى». وهو ما دفع وزير الاتصالات الإسرائيلى إلى الإقرار بالهزيمة الافتراضية أمام الجزيرة، زاعما أنه سيطلب تعديلا تشريعيا نظرا لأن صلاحياته لا تسمح له بإغلاق الجزيرة، وكأنه لم يكن يدرك هذا، وهو يعقد المؤتمر الصحفى فى مطلع شهر أغسطس، ما يعنى جولات أخرى من التسويف والمماطلة، خاصة أن البدء فى اتخاذ أى خطوات فى هذا المضمار مرهونة بعودة الكنيست من العطلة الصيفية ووجود أغلبية مؤيدة لطرح مشروع القانون وصياغته ومناقشته فى أكثر من قراءة، يمكن للجزيرة بعدها أن تتجه للمحكمة العليا لتعطيل القرار لفترات أخرى. يبدو التسويف وعدم اتخاذ إجراءات عملية ضد الجزيرة أنه مرتبط بانتظار أن يجد تميم وفرع الأسرة الحاكمة المؤيد له مخرجاً قريباً، أو أن يستجيب للمطالب العربية ويغلق الجزيرة، وهو ما يعكسه تعاطف إسرائيل مع النظام القطرى الحالى تمثلت مظاهره فى حملات دفاع مستميت ضد تقارير صحفية عربية (غير موثقة) تفيد بأن طائرات إسرائيلية هبطت فى الدوحة، وأن الجيش القطرى يضم عناصر إسرائيلية. مسرحية الشد والجذب بين الجزيرة وإسرائيل تعكس تقاطع مصالح إعلامى ارتقى إلى درجة التحالف بين إسرائيل والنظام القطري، وتعد الجزيرة بالفعل أشهر أجنحة التعاون الإعلامى بين الدوحة وتل أبيب، فقد أدخلت افيخاى ادرعى المتحدث باسم جيش الاحتلال، والناطقين باسم حكومة الاحتلال إلى بيوت المشاهدين العرب فى كل مكان، بينما امتنعت عن استضافة من يمثلون وجهات نظر عربية مخالفة للسياسات القطرية الداخلية أو الخارجية. وأذاعت الأخبار المعادية لثورة 30 يونيو بالتعاون مع المحطات التليفزيونية الإسرائيلية الأولى والثانية والعاشرة، وكان من الجلى أن لإسرائيل وقطر رغبة مشتركة فى تشويه ثورة 30 يونيو وبث الأخبار الكاذبة والمحرضة بشأنها، وهو ما فشلتا فيه. لمزيد من مقالات د. أحمد فؤاد أنور;