لا أمل من الحديث عن شيخ المؤرخين محمد شفيق غربال، ولا يغادر ذهنى مشهده حينما حمل حقائبه وغادر مصر إلى ليفربول فى بريطانيا، والحرب العالمية الأولى مشتعلة، والعالم يصطلى بها، لكنه كان مدفوعا بحب عارم للمعرفة ملك على الرجل قلبه، فتحرك سنة 1915م إلى بريطانيا، وألقى هناك عصاه، والتحق بمدرسة الدراسات التاريخية، وعكف على التعلم والاستزادة، وكان من حظه أن تتلمذ لمؤرخ الحضارات الشهير أرنولد توينبي، الذى أشرف عليه لنيل درجة الماجستير، ويبدو أن توينبى قد أنفق عمره فى دراسة الحضارات وفهم أسباب صعودها وسقوطها، والغوص فى التجارب البشرية المختلفة فى صناعة الحضارات، وما طرأ على كل تجربة من عوامل استقامة وسداد وانتظام وصعود، أو عوامل نحت وانهيار وسقوط، إنها مشهد نادر حينما تحتشد كل تلك المسارات من تاريخ البشرية أمام عقل باحث متبحر، فيقوم بالتجريد وإسقاط المشخصات والتغلغل إلى فهم قوانين هذه الظاهرة البشرية العجيبة، والتى هى صعود الحضارة، وكان من نتيجة ذلك أن انقدح لأرنولد توينبى معنى دقيق، اعتصره لتلميذه شفيق غربال، فكان يقول له: (إن الحضارات لا تموت قتلا، لكن تموت انتحارا، بانهيار منظومة قيمها). وقد توقفت كثيرا أمام هذا المعنى، الذى هو قبس من الحكمة، اهتدى له باحث بعد أن أمضى العمر فى محاولة للفهم، فلاح لى عدد من الفوائد: أولا: أننا نمد أيدينا ونفتح عقولنا لأى باب من الحكمة ينقدح على يد أحد من حكماء البشرية، ونسعى لاقتطاف تلك الخبرة، والانطلاق منها، وتوظيفها والبناء عليها، والتفكير على منوالها، لأن الله تعالى قد قسم العطاء ووزعه على مختلف الأجناس والأعراق والشعوب والحضارات، وينبغى لكل شخص جاد موفق أن ينتفع بذلك كله، فنرى هنا شفيق غربال يشد رحاله إلى أستاذه الخبير المحنك فى ليفربول، كما فعل شيخ الأزهر الشيخ عبد الحليم محمود، وشيخ الأزهر الشيخ مصطفى عبد الرزاق وعشرات ومئات سواهم. ثانيا: أن هذا الانفتاح والتعارف الحضارى لا يفقد الإنسان اعتزازه العميق بذاته ووعيه ونسقه وسياقه، وثقته فى ذاته، وعرفانه العميق لأهليته وتجربته الخاصة، ومن ذلك أن شفيق غربال رجع إلى بلده غير منبهر ولا تائه ولا مشوش، بل رجع معتزا بمصريته، وكتب كتابه العظيم (تكوين مصر)، وأطلق شعاره الرفيع (مصر هبة المصريين). ثالثا: أن الحضارات لاتموت قتلا، مهما طرأت عليها عوامل الضغط والضيق والضنك والشدة بل والتعدى العسكرى والحروب، فإن كل هذا لا يتمكن من إنهاء حضارة أو إسقاطها، فلا يمكن قتل الحضارات، بل إنها تستعيد دائما توازنها، وتسترد عافيتها، وتنهض من جديد، حتى بعد الحروب والأزمات، لكن الخطر الحقيقى الداهم على أى حضارة يرجع إلى انهزام الإنسان الصانع لتلك الحضارة، بأن تتفكك منظومة قيمه المركزية، وتنهار أخلاقياته، ويتحول مجتمعه إلى مجتمع الجشع والفلهوة والتعدى والاستهتار والكآبة وعدم العمل المكثف والإنتاج المتراكم المستمر الذى يصنع وفرة ورخاء، فحينئذ يكون الخطر الحقيقى على تلك الحضارة. رابعا: أن الإنسان هو حجر الأساس فى أى حضارة، وليس القوة الاقتصادية ولا التكنولوجية، ولا العسكرية، ولا غير ذلك، بل قد يتعثر الإنسان فى ذلك كله، وتظل حضارة دائمة ومستمرة، بسبب أن الإنسان الصانع لذلك كله ما زال حيا وواثقا وقادرا على التجدد والاستمرار واجتياز الأزمات. خامسا: منظومة القيم المركزية لأى شعب أو حضارة هى أساس بناء ذلك الإنسان، ودونها يتحول الإنسان إلى كائن عبثى فوضوى مدمر، ليس له سياق ولا تراكم ولا منهج، فيتحطم ويزول، فبمقدار العناية بحصر القيم المركزية للشخصية الوطنية، والتضافر على توريثها للأجيال، وبناء كل جزء ينهار منها، يظل الإنسان حيا، فتظل حضارته قائمة مهما تعرضت لأزمات، ومن ثم فنحن مطالبون بمشروع قومى مصرى لإعادة قضية الأخلاق وبناء الإنسان إلى الإنسان المصرى فى مختلف وجوه أدائه ونشاطه، فلاحا كان أو صانعا أو مدرسا أو غير ذلك، حتى نعيد إحياء أخلاق المهنة، وتنتعش فى نفوسنا تلك القيم الرفيعة التى تجعل الأمل أملا، والعمل عملا، والوطن وطنا، والشهامة شهامة، والثقة ثقة، ولابد من استنفار هائل فى هذا الاتجاه، تتضافر عليه منابر الإعلام، ومناهج التعليم، والخطاب الديني، ومنظومة العمل الإدارى فى الهيئات والمصالح الحكومية، وننزل به إلى القرى والمدن، وتنخرط فيه أطيافنا المختلفة، ونبذل فيه مجهودا كبيرا على مدى شهور، حتى تلين النفوس التى استمرأت لنفسها الجشع والطمع والتعدى والاستخفاف بكل شيء، وتنكسر تلك الدائرة المفرغة التى تدور فيها نفوس كثيرة، من الإثراء والتكسب مهما دمر فى سبيل ذلك من قيم، ومهما خان أو احتكر أو ارتشى أو فسد. إنها فى نظرى قضيتنا القومية الأولى، التى تعيد تشغيل طريقة صناعة الإنسان المصرى الجاد العبقرى المبدع الوطنى الشغوف بالعمران والعلم، والقادر على اجتياز أزمات طاحنة نزلت بوطنه عبر قرون مضت، فنجح فى أن يجتاز بوطنه كل تلك الأزمات وأن ينقله من جيل إلى جيل مرفوع الرأس عزيز الجناب، وسلام على الصادقين. لمزيد من مقالات د. أسامة الأزهرى